العبودية الجديدة بين حرية التعبير وحرية التفكير
د. سعيد بلفقيه
إن التوجه الذي أضحى يخضع له الإنسان في العصر الحالي، وهو منغمس في الفضاء الرقمي، أخطر من التوجيه والتدخل في صناعة الفكر الإنساني وفق المنهج التقليدي الذي كان يمارس في الأمس القريب ممن أطلق عليهم بالهيئات الناعمة كما سماها «أنطونيو غرامشي» من قبيل الأحزاب والنقابات والجمعيات والإعلام والمؤسسات الرسمية قبل بروز العالم السيبيراني، ذلك أنه إذا كان هذا الأخير يظهر في جانب أنه جاء لتسهيل الحياة، وهذا أمر لا يمكن إنكاره، لكن زاوية أخرى تدفع بالقول إلى استهداف مستعمليه وتحويلهم إلى كائنات طيِّعة ومستهلِكة. ذلك أن هناك وهـما يتم التركيز على تسويقه، وهو الاعتقاد بكون العالم السيبيراني فضاء للحرية، لكن ينبغي الانتباه هنا إلى أنها مجرد حرية للتعبير، مقابل ممارسة التأثير نحو انحصار الابتكار وتطويق حرية التفكير، اعتباراً لكون كل شيء داخل هذا الفضاء السيبيراني محسوب بدقة، وكلّما ولجه المرء يكون مراقبا من طرف برامج توجهُه نحو ما تريد الترويج له أو إشاعته والتسويق لمثاليته أو لأفضليته، وهنا يكمن مشكل التطويق الفكري المُمارس طوعا واختياريا من طرف مستعملي العالم الرقمي. صحيح أنهم يجدون أنفسهم أمام زخم من الاختيارات لكنها في ذات الآن تسقطهم في فخ متاهة وتيه فكريين، حيث أنه بغض النظر عن نوعية الاختيار، فإنه يعتبر مفروضا لكونه تم منحه ضمن سلة الاختيارات التي يتم عرضها وتوفيرها.
فالمنهج القديم في صناعة الفكر الإنساني بطرقه التقليدية كان يُمارس عبر تمرير التوجهات والأفكار والإيديولوجيات وغيرها من القيم والمبادئ التي يُـراد زرعها في فكر الأفراد، عبر الاستعانة بالأنشطة ذات الخلفية التكوينية في سعي حثيث نحو تكريس تلك التوجهات والتوجيهات لدرجة أضحت معها الهيئات الناعمة مثار سؤال مجتمعي مرتبط بمدى تمكنها من احتواء متطلبات العصر ومواكبته في إعداد الأفراد عامة والناشئة على وجه الخصوص، وبالرغم من تباين نسب نجاح تلك الهيئات في مهمتها تلك، فلا ينبغي إغفال استعصاء استمرارها في فرض هيمنتها الفكرية على مستهدفيها واستجماعهم حولها، بل توزّع الأفراد وتفرقوا على مستوى الانتماءات الفكرية إلى مشارب متنوعة من حيث أنماط الفكر ونوعية التفكير، ذلك أن ما استعصى على جهة معينة، تم استثماره من طرف جهة منافسة أو مضادة، في مشهد يحيلنا على ديانامية مجتمعية قائمة على التقارع والتنافس الفكريين المرتكزين على إعمال ملكة العقل والانفتاح على عالم الإبداع والابتكار والإنتاج بعيدا عن منطق الاستهلاك والنقع الفكري.
أما في زمن العالم السيبيراني، فالتوجه العام ينحو تجاه زرع ثقافة معينة، وطبعا، هذه الثقافة لا يمكن إلا أن تكون ثقافة من يتحكم في تلك العوالم، ليس فقط من حيث تمرير الخطابات والتوجهات الفكرية، بل حتى مراقبة الأفراد ومعرفة اتجاهاتهم، بل ويمكن أن يصل الأمر إلى معرفة الميولات والمتطلبات الشخصية للأفراد أكـثر من أنفسهم.
إن مرتادي العوالم الافتراضية يخضعون لاستعمال ما توفره تلك العوالم في توجه جديد أطلق عليه البعض «العبودية الاختيارية الجديدة»، مع استحضار تجريد الفرد من حرية الخلق والابتكار، وحشره في زاوية استخدام ما يظهر أنه ممنوح للمستعملين، لكنه في حقيقة الأمر لا يوفر إلا ما تم حشوه به من طرف من يجلسون خلف أجهزة التحكم في تلك العوالم.
لا ينكر إلا جاحد ما يُحسب على العالم الافتراضي كونه من أكبر وأحدث الثورات التي تشهدها البشرية في العصر الحالي، لما شكلته من وعاء زاخر بمزايا وافرة لما توفره من معطيات ومعارف بل ومُعينة على تسهيل عدد من متطلبات الحياة، إلا أنه في المقابل، فقد قام بتجريد الإنسان من حريته، بحيث أضحى الفرد يخضع لسجن طوعي للوسائط التكنولوجية لدرجة أنه لم يعُــد باستطاعته العيش دون الاطلاع على مواقع التواصل الاجتماعي أو تطبيقات التحاور الآني، أو منصات الأخبار إلى غير ذلك من الخدمات الرقمية التي وفرها هذا العالم المستجد على حياة الإنسانية، دون إغفال مُعطى الذكاء الاصطناعي الذي ساعد على تيسير عدد لا يحصى من الخدمات والحلول التي تهم المعيش اليومي للإنسان، مقابل تعميق تجريد الإنسان بل وحرمانه من مقومات الخلق والابتكار ذات الارتباط بالفكر خصوصا في الجانب المتعلق بالبحث العلمي الخاص بالعلوم الإنسانية التي أصبحت في مجمل إنتاجاتها مقتصرة على ما تجود عليها مواقـع الذكاء الاصطناعي، محطِّمة مقابل ذلك كل الجهود والمصداقية اللازمة والملزمة بهذا الخصوص، مما يشكل خطرا على الإنتاج الفكري المواكب للظاهرة الإنسانية عامة والقائمة على المعايشة والتحليل المنهجي الواقعي لمعطياتها وحيثياتها دون السقوط في التعبيرات الموصوفة بالعمومية التي توفرها تلك المواقع الموصوفة بالذكاء، والتي تحد من روح الاجتهاد بما يعكسه ذلك من فرملة وانحسار لدورة الإنتاج والإبداع الفكري. والعمل على تواري رعيل البحث والاجتهاد والابتكار مقابل إفراز جيل موسوم بالتقاعس والتكاسل والتواكل الفكري.
إجمالا، من الثابت القول بأنه إذا كانت السيـبيرانية بمواقعها التواصلية ومسطحاتها الخدماتية وتطبيقاتها التحاورية وذكاءاتها الاصطناعية قد شكلت طفرة على مستوى تسهيل ورفاهية المعيش اليومي للإنسانية بكل تمظهراتها وتجلياتها، فإنها، في المقابل، قد عملت على تشكيل الفكر الإنساني وتحوير جزء منه، ليس فقط إلى آلة استهلاكية، بل حولته بمنطق ثنائية الاختيار الملزم أو الالتزام الاختياري إلى الولوج طوعا إلى منظومة استرقاق واستعباد وجب معها صياغة سؤال ما الجدوى وما الكيفية الكفيلة بتطويع العالم السيبيراني ليصير في خدمة الإنسانية وليس العكس.
الكاتب : د. سعيد بلفقيه - بتاريخ : 25/12/2024