فقه الواقع.. والإصلاح داخل الإصلاح!
عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
معنى أن يقود الملك إصلاحا عميقا، في منظومة تعتبر من أقدم معاقل وأحصنة النظام الروحي، بدون أن يصطدم و لا أن يكون ضد الشريعة، ولا ضد العلماء ولا ضد المجتمع في أغلبيته الساحقة…
الثورة المستمرة على أساس الاجتهاد، لم يشتغل العقل الإسلامي، في القرن الذي ودعناه والقرن الذي ندخله، كما اشتغل في أرض المغرب الأقصى، بتفعيل بنود الاجتهاد في منظومة الفكر.
المدونة وتعريف الأسرة وإيجاد ملاءمات بين نص الأمة السماوي وعقل البشرية الأرضي، وبين الأفق الإنساني المفتوح، وبين ثوابت الشريعة، تحقق بشكل سلس وتوافقات عليا. كما لو أن الديني والدنيوي وجدا أرضا للتفاهم، وما ظلت الأمة تنشده منذ اكتشفت تخلفها وابتعادها عن المنجز البشري الكبير، منذ أيام النهضة، تجد أجوبة عليه، بدون أن يتم انتصار الأسس الشرعية الضاربة في الماضي على مبادئ العصر ولا العكس .
هو اجتهاد بناء، أي ليس اجتهادا لتحقيق سعادة إيدولوجية ما، بل اجتهاد لتحافظ الأسرة على مكانتها كخلية وركيزة، وأيضا لكي ينتصر لها المجتمع بعدالة واضحة...
الأسرة، بما هي نقطة تقاطع الدين والدستور، وبقوة القانون، الدولة مطالبة بحماية الأسرة )ف 32(، والأطفال سواسية أمام حماية الدولة، وهي توفر الحماية القانونية والاعتبار الاجتماعي لجميع الأطفال بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية، ولا يوجد قانون يحظى بالاحترام أكثر من قانون الأسرة، أي المدونة.
أهم شيء في المدونة هو التشريع من أجل خلخلة العقل الجامد على أساسيات محددة في :
1-تغيير القانون لتغيير الذهنيات l?gif?rer pour changer، وأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، والنجاح في« إجبار» جمهور الأمة على أن يكون عقلانيا، بمعنى أن يقبل بأن تكون القوانين هي التعبير عن السيادة ( الروحية والمادية معا).
2-هذه الورشة لا تجيب فقط عن معادلة مجتمعية مغربية بل هي ورشة حضارية للأمة الإسلامية…ككل، لتوظيف الفعل العقلي في ربط قصدية العقيدة بما يتحقق إنسانيا، وهنا برهان على قدرة الإسلام المغربي على أن يقدم الأجوبة ويأتي بالجديد إلى العالم الإسلامي، والإفلات من حتمية الصراع بين الديني والدنيوي، بحل إحدى أكبر المعضلات الدائمة عند المسلمين…
3-فتح مجال الممكنات لاستيعاب المستحيلات ومرافقة الاجتهاد في الوصول إلى آفاق أخرى.
4- الخبرة الجينية في إثبات البنوة اليوم في موقع «الكوبيرنيكية»..جاليليو المغربي، عليه مجهود إضافي للخروج من هذا التفاوت الفقهي بين حقيقة» الأرض تدور » وجمود النص .ولعل التشبث بالحديث في سموه على روح القرآن الكريم بالإعلاء من قيمة العقل المنفتح على العلم ما يشبه »تهويد» الإسلام..
روح الاجتهاد هو أن نقتنع بأن شرع الله يكون حيث مصلحة خلائقه!
===
فالمرأة التي تعارض المساواة في الإرث، ليست ذلك الكائن العقلي ، إذن، الذي يتحدد وجوده بجنسه أو وظيفته داخل المجتمع، بل هي الأم التي تعرف بأنه يمكنها أن تستفيد من ابنها أكثر من ابنتها، وهي الشقيقة، كانت أرملة أو مطلقة، التي تدرك بأنها في حالة الحاجة ستجد المساعدة من طرف شقيقها أكثر من شقيقتها..وهكذا …
والصعوبة لا توجد ولا تربط بالدين، بل بالاقتصاد، ففي مجتمع الوفرة، يمكن أن يوضع الفاعل الديني بشكل مبرز ، ويمكن أن يوضع موضع مساءلة عن صواب وعن حق.. لكن ليس في مجتمع الحاجة حيث الفكر والسلوك، كل واحد تمليه، أولا وقبل كل شيء، المصلحة…
ولا يمكننا الإفلات من هذا الوضع كما هو إلا بمغادرة الساحة الجماعية بطرح المشكلة على المستوى الفردي المحض، بحيث يكون كل واحد مجبرا على أن يرى نفسه في المرآة، ويقرر إلى أي حد يمكنه أن يمتثل لنزواته الأنانية…
==
البيعة ومن ورائها إمارة المؤمنين، ليست فقط دعامة لوحدة التراب، ولا محصورة في الدفاع عن الحدود ( الرأي الحصري لمحمد عابد الجابري)، البيعة باب لتغيير نظام التاريخانية: régime d’historicité أي ألا يكون ماضينا هو أبدع ما لدينا، بل يمكن أن نقتحم عقبة المستقبل بدون حرج، بدون أن نقطع مع ثوابت الماضي، البيعة هنا طريقة متجددة في ربط اللاحق بالسابق.
وأيضا تحيين السابق بمستجدات اللاحق…
البيعة شرط عقلاني في تجديد الفقه، بواسطة إمارة المؤمنين.
ودسترتها كانت هي الوصفة لتجاوز التناقض الظاهر بين ثوابت الدين والاتفاقيات الدولية، الباعث على الخوف والانكماش الحضاري… باب الاجتهاد يظل مفتوحا، وهذا هو الأهم، وأن إصلاح 2004 تطلب إصلاح 2024، ويمكن للإصلاح الأخير أن يستوجب إصلاحا آخر عندما يتطلع المجتمع إلى ذلك، كما أن النظر في النص بناء على مستجدات الواقع أصبح على جدول الأعمال اليومي لدى المجلس الأعلى باعتبار الآلية التي دعا إليها ملك البلاد.. وهي تمنح المبادرة للمجلس المثقف الديني الجماعي .. ولا تنتظر صفارة الإطلاق من لدن أمير المؤمنين..ونحن ندرك بفعل الجدلية السوسيولوجية الناضجة أن «المجتمع لا يطرح إلا الأسئلة التي يستطيع الإجابة عنها»….
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 26/12/2024