أوكسجين آخر خارج الورق

علينا أن نعترف أن الكاتب (الكلاسيكي) «غير متاح» الآن.. منشغل بذاته التي تخترقها أشياءُ العالم.. منكب على الخلخلة والحلحلة والشك في كل شيء.. يحاول أن يرى العالم من الوسط، وليس من الأطراف. أما «الكاتب الافتراضي»، الذي لم يعش قلق نقاط المراقبة والتفتيش والقفز على الحواجز، فإنه يحمل هما آخر.. وهو هم الوصول إلى «سكان المجموعة الشمسية» ليثير إعجابهم وتصفيقاتهم وينتزع «لايكاتهم» ويصبح حديث كل لسان. إنه إذا شئنا «رائد فضاء» يرى العالم من خرم إبرة.. رجل أعزل ببزة بيضاء ثقيلة وخوذة زجاجية وجسد متأرجح. هل هذه قسوة أم رؤية سلفية؟
لست أدري. كل ما أعرفه هو أن الكتاب نوعان:
الأول يترك جلده مسلوخا على ما يكتبه ليسير في الأنفاق ومجاهيل الذات المعتمة، والثاني يعرض سلعته كالحرفي «الصنايعي» على قارعة الأذواق..
وأنا متحيز طبعا للنوع الأول.

*******
«كتابة الافتراض» بحر عجاج، ويتعين على كل كاتب أن يصنع فلكه بهدوء ومثابرة، وأن يتقن الصنعة وأن يحصنها ضد الطوارئ وعوادي الدهر وصروفه، خاصة أن «عصر نهاية الرقيب» لم تفسح المجال لدخول «عصر الضمير الأدبي». ذلك أنه بحر يكثر فيه وقع الحافر على الحافر، فيهجم الاختلاق وتنتهك الخصوصية، ويبرز العدوان المنظم والمجهول.

******
هل «كتابة الافتراض» تنتج معرفة أخرى بديلا عن المعرفة السابقة، أم أنها تتأسس على القص والنسخ واللصق والإخفاء؟
هل تعكس تدفق الثقافات العالمية المختلفة وسرعة الوصول إليها، أم تعكس السطحية والاختزال والاستسهال والرقص العاري؟
هل بإمكانها (خارج بند الضمير والتعرية والفضح) أن تطيح بالطرح الكلاسيكي للمعرفة الذي يتسم
بالرصانة والرزانة وقوة الفعل والتأثير؟
وهل أصبحنا معها، خارج النظام الكوني للقيم الذي كان سائدا؟

*******
أصبحنا اليوم أمام حقيقة غير قابلة للدحض: لم تعد هناك خطوط للطول أو العرض، ولا سبيل إلى العودة إلى الوراء.. الوراء أيضا ليس موجودا. فما الذي بوسع الكتابة أن تفعله أمام هذا المتغير الأنطولوجي؟ وماذا بوسع الكتاب أن يفعلوه أمام «الحمى» التي أدركت البعض، وحولتهم إلى كتاب «واسعي المقروئية»؟
هل يتعين عليه أن يتغير، وأن يقنع نفسه بالانتماء إلى «الكثرة»، وأن يتحول إلى آلة راجمة؟
هل يتعين عليه أن يستعمل آلية الدعاية، التي يتيحها النت، ليكون ويتحقق، أم عليه أن يصفق الباب وراءه
بقوة، ويتوارى إلى أقصى زاوية في ذاته؟
هل عليه أن يتعلم كيف يتغير، أم عليه أن يسير حافي القدمين في ضجيج الافتراض؟
هل يطمئن للتفاعل الافتراضي السريع، المتسم بالارتجال والسطحية (والجهل أحيانا)، أم عليه أن يحمي خصوصيته في فضاء لا يعترف بأي خصوصية؟
هل يبالي بهذا النوع من التفاعل، الذي يفترض نوعا من النزال الكاذب، أم يستمر في التقدم إلى الأمام بصبر وأناة؟
هل يتعين عليه أن ينسى القراء القدامى (القراء الورقيين) ليظفر بقراء جدد ليس لهم بمعرفة بآليات التلقي السابقة؟
هل عليه أن يدخل، فعلا، إلى المرحلة التفاعلية.. ليس بينه وبين القراء فحسب، بل بينه وبين الأدب الذي ينتجه، أم عليه أن يستسلم إلى الحوامل والمحافل الجديدة ويصرف النظر عن الإمكانات الأخرى التي يطرحها النص التفاعلي؟
وأخيرا، هل يتعين عليه أن يتحول من الكاتب ?الداعية- الرومانسي- المصلح.. إلى الكاتب-الفنان- التقني- المخرج- الفرجوي، وأن يتعلم تقنيات مزج الصورة الثابتة بالمتحركة، واستعمال الموسيقى والمؤثرات الصوتية والرسم والتشكيل والتحريك والمسرحة والتنصيب والتقعير، والبحث في الأبعاد فيزيائية متاحة تقنيا؟

******
ومع ذلك، رغم السطوح المتراكمة التي يفرضها علينا عالم الافتراض، ورغم ثقل التجوال في الأسواق القديمة و»ما يَدِقُّ المسلك إليه» بتعبير الفراهيدي، علينا أن نعترف بأن طريق العودة إلى الورق- رغم كل أشكال المقاومة- لم يعد ممكنا، وأن الأمام هو الافتراض.. ويجب أن نعتلي الأدراج، وأن لا نخاف من ضياع الأوكسجين الذي كانت تتيحه الغابات (العادات) القديمة.. هناك أوكسجين آخر يتيحه كتاب «المواقع الاجتماعية» والمدونات، وهو أوكسجين سريع الاستهلاك، ويتعين علينا أن نعثر على السرعة اللازمة لمواكبته. هناك كتاب رائعون وحقيقيون، اختاروا عن وعي (وعن عمد وسبق إصرار) الانتماء إلى الافتراض، والبحث عن النور القادم بقدر غير ثابت من العدم الواسع.

*******
الأفق واسع جدا، ولا ينبغي أن ننسى بأن إيريك سميث، رئيس شركة «غوغل»، تنبأ بنهاية الأنترنت، وأن الوقت «وقت أجهزة الاستشعار والأجهزة الإلكترونية القابلة للارتداء، والتي ستصبح جزءا لا يتجزأ من عالمنا، حتى أننا لن نلحظ وجودها».
فماذا أعد الكتاب لهذا العصر؟ وهل سينتهي، فعلا، عصر الكتابة والأحلام والتاريخ؟18


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 10/01/2025