ما تدين به الأمازيغية للملك …
عبد الحميد جماهري
لتقدير القرار الملكي وخلفياته العميقة، في التعامل مع المكون الأمازيغي في هويتنا الجماعية، لا بد من أن نأخذ بعين الاعتبار كثافة الفعل السوسيو ثقافي، في مجمله، وليس فقط تناوله من زاوية وقائع فعل السلطة كما تحدد مفهومها الجديد مع الملك محمد السادس. وبمعنى آخر، فإننا نعيش ثمرات تحول عميق وطويل في العلاقات الاجتماعية، وذلك بتحرير الموضوع من المفهوم السلطاني للثقافة الذي يتجاوز في تاريخانيته، قرار السلطة العليا أو انحيازها الصائب والشجاع إلى حقيقة مجتمعية.
إنه فعل كثيف. وهو بدوره يكثف هذا التحول، بل نستشرف من خلال قضية الأمازيغية أن العهد الجديد كان يحمل الكثير من التطورات القادمة منذ بدايته. والدليل على ذلك أن خطاب العرش الذي نحن بصدده، في 2001، أعطى تعريفا للهوية، هو الذي سيتأكد في دستور 2011 أي بعد عقد من الزمن..!
1ـ منذ بداية العهد، ربط محمد السادس، بين الدولة الموحدة، الوطنية بالعمق الثقافي . وظل هذا الترابط حاضرا، بحيث يمكن الجزم بأن التثمين الدستوري أو السياسي التربوي للأمازيغية، باعتبارها خصوصية من الخصوصيات الثقافية المغربية، كانت حاضرة في العرض الملكي الذي قدمه الملك في بناء تعاقده مع الأمة المغربية.
في خطاب 2001، وفي تزامن مع القرارات ذات الصلة ببناء المشروع المغربي الجديد، أعطى الملك، المعنى الجازم في الربط بين كيان الدولة وبين« الهوية الوطنية المتميزة بالتنوع والتعددية».
في ذات الخطاب، عرف الملك هاته التعددية، المبنية على روافد متنوعة أمازيغية وعربية وصحراوية إفريقية وأندلسية…». ولعلنا نلمس في هذا التعريف حضور المضمون الدستوري القادم كما سيتحدد في 2011، أي بعد عقد من الزمن.
وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه من كون هذا المفهوم الجديد للهوية، كان حاضرا قبل موجات الربيع الفِبْرايري وقبل النقاشات الواسعة التي صاحبته، في وضع «البنية التحتية الدستورية» للدولة المغربية المتجددة..
.2ـ قعَّد الملك أيضا الترابط بين النظام السياسي وتعددية الهوية ( التي لم تعرف أغلبية أو أقلية ): معتبرا بأن «ديمومة نظامنا الملكي منذ 13 قرنا» هو قاعدة تحصين هذا التعدد، عبر تطور تاريخي وطني مكن الهوية من خصوصيات لا نظير لها.
3- دفعة تاريخية : وضمن حيوية إصلاحية كبيرة وحاسمة أعلن الملك في هذا الخطاب عن إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ووضع على عاتقه« النهوض بالثقافة الأمازيغية، ومن ذلك إعداد ومتابعة عملية إدماج الأمازيغية في نظام التعليم». وأوكلت له، منذ 24 سنة، مهام اقتراح السياسات الملائمة التي من شأنها تعزيز مكانة الأمازيغية في الفضاء الاجتماعي والثقافي والإعلامي الوطني..
ولا يغفل المتتبع كما صاحب القرار أن الدفع بحضور اللغة الأمازيغية في كل مجال، سواء الوطني أو المحلي والجهوي، يعتبر في التقدير الملكي «تجسيدا للبعد الثقافي للمفهوم الجديد للسلطة».
4-لم يتعد الفاصل الزمني بين خطاب العرش (يوليوز 2001) وخطاب أجدير ( أكتوبر 2001) سوى أشهر قليلة، 3” أشهر بالضبط” ليتبين الحرص على تسريع وتيرة الدخول في زمن جديد للهوية..
اختار الملك محمد السادس موقع أجدير الجبلي الأطلسي، الذي يتصادى مع أجدير الأخرى، أجدير الحسيمة، الموقع الريفي المتوسطي، التي رأى فيها البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي النور.. للإعلان عن تصوره أو ثورته الثقافية الأمازيغية.
في أجدير خنيفرة وضع الملك البنية التحتية المؤسساتية لما يراه للأمازيغية. ودخلت القرية الجميلة، المحاطة بالأرز الأطلسي التاريخ الثقافي والسياسي للبلاد. وحضر اسمها حيث ما توجد الثروة الثقافية والإنسانية الأمازيغية موضع نقاش مجتمعي. في شمال إفريقيا وفي غيرها.
في خطاب أجدير تأسس وتكرس خروج المغرب من أي باب مسدود في اللغة، وقعت فيه بعض الدول المجاورة، وصارت اللغة بسببه، بؤرة توتر، كما في قضايا أخرى مثل قضية المرأة..
في خطاب أجدير :
-صدر الظهير الشريف المحدث والمنظم للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؛
ـ التعبير عن إقرارنا جميعاً بكل مقومات تاريخنا الجماعي، وهويتنا الثقافية الوطنية..
ـ الأمازيغية ملك لكل المغاربة بدون استثناء، وهو توضيح ضروري إن لم نقل إجباري حتى لا ينزلق التعاطي معه إلى نزعة تفتيتية تجعل من القضية شرط وجود فئة من الشعب دون غيرها. سواء بالانحياز المنغلق أو الرفض المستتر!
ولن نبالغ إذا قلنا إن في هذا التأكيد استباق لما يحدث الآن في بعض الدوائر التي تريد أن تجعل من الهوية سياجا يخص قسما واحدا من المغاربة..
ـ النهوض بالأمازيغية شرط في إنجاز المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، وبالتالي فهو مشروع وإن كان لا يُغيِّب الماضي، فإنه لا يسكنه أيضا، بل ينفتح على الديموقراطية والحداثة في تنمية الهوية ومصالحتها مع عصرها.
-5 الدستور والتعريف الثقافي للـ«نحن» الجماعية: في التصدير للدستور، ما يشبه استعادة كاملة لما ورد في خطاب 2001، في الحديث عن تحديد طبيعة الدولة الأمة وحقيقتها الثقافية. وهكذا ورد في نص 2011” «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية”…
ويتجدد التأكيد في الفصل الأول من حيث تنصيصه على أن الأمة المغربية تستند في حياتها العامة على ثوابت جامعة، منها «الوحدة الوطنية متعددة الروافد». كما فصل الفصل الخامس في ترسيم اللغة الأمازيغية بالتنصيص مجددا على ما يلي”«تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء. يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية”.
ـ دستر المغرب، كذلك، الشكل المؤسساتي لحماية هاته الهوية اللغوية والثقافية، من خلال إنشاء «مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، مهمته، على وجه الخصوص، حماية وتنمية اللغات العربية والأمازيغية».. وهو ما لم يتم لحد الساعة تنزيل هاته الآلية الضامنة للتناول المؤسساتي المقنن لهذه المهمة الحضارية، مع الأسف، بالرغم من مرور 14 سنة على اعتماد الدستور!
وهكذا، نحن أمام تأخير في تأخير، أي أن تقوية الهيكلة الدستورية للمسألة الثقافية، لم تتأتَّ سوى بعد نصف قرن من الحياة الحرة للمغرب، وينضاف إليها عقد من الزمن الدستوري الجديد لخصاص في التنفيذ!
وهو تأخر غير مبرر في الواقع بعد التصويت بالإجماع، يوم الاثنين 10 يونيو 2019، على القانونين التنظيميين، الأول خاص بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في الإدارة والحياة المهنية، والثاني بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية…
في الدسترة ربحنا تحدي الإطار الجامع للنقاشات الاجتماعية بحيث إن المكونات السياسية والثقافية، صارت تحتكم في هويتها الثقافية وتعريفها وتحديدها، إلى النص الدستوري أكثر من التعريفات العامة… من خارج الدستور والمتعالية عليه لأسباب تاريخية وأخرى دينية..
ولنا أن نضيف كذلك بأن الوطنية الواعية، ( أو الوطنية الدستورية، patriotisme constitutionnel) تشجع على بروز المواطنة الديمقراطية. علاوة على أن الإحساس بالانتماء المشترك، يسهل إقامة الديمقراطية، والتي تقوي بدورها من التضامن بين المواطنين عوض الزج بهم في الطائفية والتناحر الهوياتي، والاستحالات الثقافية..
إلى ذلك، تمثل مناسبة السنة الأمازيغية فرحا إضافيا للمغاربة وليس سببا للتشنج الهوياتي. جميل أن نفرح.. بلغة عمرها من عمر المغرب 2975: عاما !
أسوكاس امباركي
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 14/01/2025