المغرب بين زمنين:النقاشات وردود الأفعال

قُدِّم مغرب القرن التاسع عشر وبداية القرن الذي يليه في صورة البلد المنخور، المُمزق بالنزاعات، القريب من الانهيار…بلد يسكنه هدوء قاتل، وينتظر وصول المُنقذ. فبين المغرب الذي رسمه أوجين دولاكروا سنة 1832م، والمغرب الذي نقله الرسام ماتيس 1911 ، يبدو أن مياها كثيرة جرت تحت الجسر كما يقال. المغرب الأول أُلبس توب «العتاقة» في أروقة المعارض، سيرًا على نهج الانطباعيين؛ والمغرب الثاني تهافتت عليه دوائر رجال الأعمال، وقُدم في ثوب «جَنَّة الأرباح».
تغيرت الصورة بين زمنين، لكن الغاية لم تتغير البتة. واضح اليوم، بمقتضى تطور الكتابة التاريخية أن الصورة تُحيل على تأكيد فكرة الانعطاف التاريخي في إعادة تركيب وقائع تاريخ المغرب.
علينا أن نعلم أن الاستعمار لم يَحل بالبلد صُدفة أو مفاجأة. كان هناك وقت كافٍ لتفادي السقوط في شِراك الاستعمار. يُلح البعض على أن يُمعن النظر إلى الفكرة من زاوية الضعف الداخلي الذي عمَّق فجوة الشرخ بين الدولة والمجتمع من جهة، ورسَّخ مبدأ التشدد البيروقراطي من جهة ثانية، وساهم في تحلل الروابط الوطنية نتيجة تمدد ظاهرة الحماية الأجنبية من جهة ثالثة.
المؤكد أن مشاهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت مليئة بوقائع انعدام الأمن، وانتشار عادة اختطاف الخيول وسرقة القمح، وحتى اختطاف النساء…نقل إلينا شارل دوفوكو مشاهد كثيرة عن هذا الواقع: «كل واحد يكسب قوته ببندقيته»، وفي مقطع آخر: «لا يعرفون لا السلطان ولا الله، بل لا يعرفون إلا لغة البارود «. يحيل ذلك، إلى انفلات بِنية العنف من الضوابط القبلية ومراقبة الزوايا…ففي الجبال، كتب السلطان الحسن الأول رسالة إلى قاضي مراكش عام 1893 م «…لقد وصلني خطابك حين تُخبرني أن أداء اختطاف الأحرار (النساء والأطفال) قد تفشى في الجبال، وبيعهم في الأسواق نظرا إلى كثرة الطلب على العبيد من طرف الأعيان والأغنياء…». وقبل هذا التاريخ، كان السلطان مولاي عبد الرحمان قد أصدر ظهيرا عام 1863م يقول فيه «إن كل عبد استجار بالمخزن من أجل إنقاذه، لا يتم إعادته إلى سيده، إن كان يمارس عليه العنف أو يضربه…».
وبالعودة إلى آفة الحماية الأجنبية التي نخرت الجسد المغربي، وعَرّت عن نذوبه وجراحه تحولت مع الوقت إلى «بوليصة التأمين» ضد انتهاكات السلطة المحلية وتعسفاتها وفق ما يستنتج المؤرخ الطيب بياض…وقد عبَّر عن ذلك القنصل البريطاني جون دريموند هاي عام 1869 م «لقد أصبح السلطان يجد صعوبة في إخضاع القبائل المتوحشة لسلطته، لأن نظام الحمايات يُقوض هيبة الدولة وسلطتها، وقد تصبح المدن الشاطئية خارجة عن القانون ومن دون حكم يضبطها…».
لم تكن الحماية القنصلية في نهاية الأمر، إلا تتويجا لمسار، أو على وجه التدقيق، تفعيلا لتوافقات ومعاهدات دولية. لكن ما يهم في الظاهرة الأثر، فقد أحدثت اهتزازا في وجدان مغاربة القرن التاسع عشر. ويصح اعتبارها عنوانا عاما وبارزا يُلخص أزمة النصف الثاني من القرن ككل.
نقرأ عن صداها تعبيرات كثيرة في إستوغرافيات المرحلة. فهذا المؤرخ الإخباري العربي المشرفي يعبر عن ذلك بوضوح: «إن شر الحماية أخذ أبعادا كارثية، لأن الشك بدأ يزحف إلى عقول بعض الناس البسطاء الذين توهموا أن دين الكفار أفضل من دين الإسلام…». كما نقل العروي وصية للعالم الفاسي محمد بن جعفر الكتاني عام 1905م عنها: «لا يجوز أن تبقى وحيدا مع الكافر، ولا أن تجلس بقربه، أو تسافر معه، أو تزوره أو تقلده، أو تغبطه على ما عنده، ولا أن تستشيره في أمر من الأمور، ولا أن تمنحه منصبا من مناصب المسؤولية…». مثل هذه الصور تنضح بها مُصنفات الكتابة السفارية.
نتيجة لذلك، ظل المجتمع ينتفض ضد كل إصلاح. الكلمة ها هنا، فضفاضة وغير دقيقة، ولا تعني شيئا، غير تكثيف الابتزاز الجبائي. لكن، لماذا يتجه الإصلاح نحو تحديث البنية التحتية؟ لماذا راهن المخزن على فكرة الإحياء؟
جرَّب المخزن إحياء صناعة السكر في الحوز وسوس، لكنه لم ينجح…محاولة يائسة لإحياء الماضي. إذاك، لم تتبق أمام مخزن القرن التاسع عشر فرص أخرى للمناورة. وجد نفسه أمام حل وحيد، تحريك القوات العسكرية نحو المناطق المهددة بالاحتلال الخارجي ( وجدة 1876- تافيلالت 1893…) لإشعار الاستعمار الفرنسي بالجزائر بأنه لا يزال مُتحكما في خيوط اللعبة السياسية. وفقا لذلك، حسب دانييل نوردمان قاد السلطان الحسن الأول ثلاثين جولة عسكرية لتأكيد هذه الفكرة.
من جهة أخرى جوبه إلاصلاح بتدخل العلماء بحجة أنه يُقوض بُنيان دار الإسلام؛ وكانت كل ثورة ضد تعسفات السلطة تصطدم بأوصاف «الأوباش- الجهلة- السفلة- السفهاء- الرعاع…» مقابل تقديم السلطان بصورة العافي»عفا عنهم لأنه يجب أن يكون النموذج في الحِلم والعفو». فقد تمرد سكان مسفيوة سنة 1859 بقيادة بوخبزة على قائدهم الذي استحوذ على الأراضي، وقام بتحويل مجرى نهر أوريكة لسقي مزرعة يمتلكها السلطان في تسلطانت، وتمردت قبيلة الرحامنة عدة مرات في سنوات 1822 و1861- 1862 و1894 التي كانت تطالب بالعودة إلى منطقة الحوز، وإعادة إدماجها ضمن قبائل الكيش. وحينما بالغ المخزن في إنهاك قبائله جراء تسديد مستحقات الهزائم العسكرية، انتفضت بعض القبائل بدون مقدمات مطالبة برحيل السلطان.
دشَّن مخزن القرن التاسع عشر هذا التوجه بشكل واضح. فقد منح السلطان المولى سليمان 1811-1822 لهذه لكلمة الإصلاح مضمونا دينيا. كانت للمولى سليمان قدرة عجيبة على التلاعب بالمشاعر وتحريك الحماس الديني، بعد أن فشل في أن يكون فاعلا كبيرا في مسرح الأحداث التاريخية، وجاءت معركة إسلي عام 1844، التي مثلت الإنذار الفرنسي، بله الانتقام الرمزي من معركة وادي المخازن. فتحت الهزيمة قوسا جديدا في علاقة المغرب بفرنسا. منذ ذلك التاريخ، رهن المغرب نفسه تحت رحمة الحوادث الديبلوماسية. فكان مصيره يناقش خارج أرضه. من يتبع خطاب المراسلات يقف عند لغة الانزياح في الخطاب، من خطاب التقدير والاحترام، إلى خطاب الترهيب والابتزاز والتهديد بالسلاح.
لم يحجب القرن التاسع عشر واقعا متسترا ظل مخبوءا لقرون طويلة؛ واقع تصادم المرجعيات في مجال التجارة مع الخارج: مرجعية حرية المبادلات التجارية وعدم تدخل السلطة، ومرجعية العمل بنظام الرخصة الاحتكارية وتخفيض الرسوم الجمركية. حول هاتين المرجعيتين دارت حوادث النصف الثاني من القرن التاسع عشر. واختلفت السياسات من سلطان لآخر. تم إغراق السوق المغربية بالمواد الفاخرة الثمينة التي كانت تُلبي حاجيات الأعيان وخاصة الخاصة، من مصابيح زيتية، وصابون للنظافة، وأيضا الشاي. ارتفع حجم استيراد الشاي من 2,3 طن عام 1854 إلى 685 طن عام 1895، ومن 500 طن عام 1890 إلى 1500 طن عام 1908. يعكس اقبال المغاربة على الشاي الانفتاح القسري للمغرب على الأسواق الأوربية.
الحاصل، تميز القرن التاسع عشر بوفرة أرشيفية غير معهودة، رسائل سلطانية، ظهائر ملكية كلها تحث الناس على واجب النصيحة، وتُحذرهم من كثرة البدع القادمة من بلاد الكفار. لم تنمع حالة الانحطاط النخبة من القيام بنقد ذاتي قاس، ومراجعة جذرية من أجل الانعتاق، لكنها عموما آثرت موقف الدفاع والتراجع إلى الوراء، أو ما سماه دانييل ريفي ب «الاحتجاج الصامت».

* أستاذ باحث


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي*

  

بتاريخ : 17/01/2025