أمد يدي إلى زر كهربائي قريب، أستمع، فإذا المفتاح في جوف سلة مهملة. عن يميني شجر كثيف ملتو أكاد لا أبصر منتهاه. وإذا صوت بعيد يأتي من قريب له صدى، وكان يشبه وقع مفتاح في قاع بحر هادئ. الجو في الغرفة لا يُحتمل، هادئ وبارد، أطبقت الظلمة على كل شيء إلا من أصوات ضئيلة تمتزج بالهواء، هسيسها يشبه دقات غصون فتية. قلت في نفسي ما كان ينبغي أن أغامر وأخرج من الفراش. وهذه جلجلة المفتاح تعود فإذا بي أنسل إلى عالم ممتد، أطرقت كأنّ على رأسي الطير:
-سيد سبينوزا هذه الألواح الخمس التي وعدنا بإحضارها، لا تنس عدسات التلسكوب والمجهر. وداعًا.
كانت عدسات النظر معلقة بعناية،تعكس وميض شعاع شمس الصباح في محل منفي،أقصى القرية،أسفل هضبة منعزلة هي الأخرى تمامًا عن العالم،بعيدًا عن الجلبة التي تحدثها عربات الأحصنة. استنفد سبينوزا طاقته في تقطيع ألواح الزجاج الخام إلى قطع صغيرة بعناية. يمعن ويدقّق بعينيه الثاقبتين،يقرّب نظارته إلى ملمسه االمستدير لضمان نقاوتها وخلوّها من العيوب. وأهم ما كان يعنيه من حياته هي الصلة التي كانت بينه وبين هذه العدسات التي تستردّ نشاطه، ينظر عبرها في إمعان فيرى جنات عن يمينه وشماله. يمسكها بين مخالبه فتعود العدسة جامدة لا تفصح عن شيء، إنما تصوّر ما في العيون من خواطر غريبة، ويستحضر بها ماضيه القريب والبعيد. يحاول أن يتصور حياته من خلالها في ما يستقبل من أيام.
أخرج من جيبه ملقطا وقاطعا حادّ الشفرة، يقطع به ألواح الزجاج في استدارة. ثم رفع يده إلى نظارته الأحادية العدسة، وأطرق إلى الشمس كأنما ينتظر شيئًا ما. وكان ذلك إذنًا لدخول ضوء الشمس وتفشيه بين أدوات الورشة… ملف تصاميم العدسات، مبرد، أداة قياس، أدوات التقطيع، إبر، مطرقة بيد خشبية ورأس صغير مسطّح… انقطع صوت تقطيع الزجاج بعدما رصّ شرائحه بعناية على مكتب خشبيّ مستطيل مع كرسي مريح. أمعن في التفكير كما يمعن فيه الفلاسفة. فحياته كانت خليقة بالروية والتفكير. يفعل ذلك حين تتدخل تلك الرؤية الشمولية في ما بينه وبين نفسه ثم لا يملك إلا أن يسأل وهو يوازن بين عدسة محدبة وأخرى مقعرة. أخذ في تشكيل العدسات وفق زوايا وأحجام متعارف عليها. استوى جالسًا في كرسيّ عالي، وخطف مسحوق الكوارتز يشكّل به عدسات متينة وشفافة. يوازي بين عين الحقيقة وعين التصميم، بين حجم العين والعين. يطيل النظر إلى مينائها المحدب فيهذبه ثم يمدّ يده في الفراغ كأنها لا ترقى إلى ما يصبو إليه، فينعكف على صقلها. جرّبها ثم أمعن الرؤية. كان يهدف إلى رؤية الأشياء بوضوح، بطتان تطفوان فوق بركة ماء، انسياب الأزهار والغصون في صمت جاثم. أخذ يطيل النظر عبر العدسة إلى بعض ما في الغرفة. فجأة كأنما هبّ من نوم عميق طويل. تسمّر في مكانه. وكأن شخصًا غريبًا يظهر في الفراغ، يستغرق في نومه، والعالم مدهون بالألوان الزاهية. وجعل يقرّب العدسة ويمضي بها وهو يسعى على أطراف قدميه، حتى إذا اقترب من مفتاح باب الدكان لم يبق سبيل إلى رؤية شيء. اشتدّ اضطرابه، وامتزج النهار بسواد الليل، قال وعيناه ممدودتان إلى العدسة الطبية:
-إن الإنسان سخيف سواء كان حيًّا أو ميّتًا، أو أنّها حمى خفيفة أنهكتني هذه الأيام
كان تفكيره لا يهتدي إلى ضوء، ثم تنفسّ تنفسًا عميقًا. رفع يده في أناة ووازى العدسة مجددا مع العين في ارتياب، يوازن بين الحقيقة والحلم. ولا يزال يرى ذلك الشاب راقدًا ساكنًا لا يأتي حركة، يده متوسطة القدّ تمتدّ إلى زر فإذا المكان يتسع بعد ضيق، وإذا الضوء يبرق من علٍ. نظراته تتخاطف المكان، والأصوات منحسرة. انعقد لسانه حين أفاق الشاب من نومه، وأخذت يداه تداعبان الجدار، وتمتدّ إلى الهواء بين الحين والحين. وها هو ذا قد بلغ غايته. وكان يبحث عن مقبض باب الغرفة ويوشك أن يلمسه لكن لم يدركه بالرغم من وجود إنارة. وثارت في نفسه عاطفة، ولكنّها حادة. قال سبينوزا وقد أعاد العدسة الطبية العجيبة فوق المكتب:
-هذه الحمى الناهكة قد اشتدّ أثرها وجه النهار
تمالك نفسه، ولبث في مكانه يلمع العدسة باستخدام أكسير القصدير للحصول على سطح ناعم وشفاف. تحدث إلى نفسه قائلًا:
-لولا أن ذلك الشاب يوشك أن يكون وهمًا أفضت إليه هذه العدسة، عالم عجيب لا يخلو من شيء يشبه العمى
فإذا ضباب يغمي العدسة، يمسحه بمنديله الخاص. ويختبر دِقّتها البصرية، ثم يمسكها بدلال بين أصابعه فتعود إليه النظرة واضحة لا تخلو من جمال. انبرى قائلًا:
-عدسة جامدة لا تحسن إلا الإفصاح عمّا في العيون، والعوالم، والتفاصيل الدقيقة للطبيعة.
ثم استطرد مرّة أخرى:
-أكثر العدسات تفنى في الظلام وتضيع في عداد الحقيقة
وجعل يقلّب العدسة ويجرّبها، ثم يطيل النظر إلى البطتين ولا يقول شيئًا. أحسّ يدًا توضع على كتفه، يصيح به في عذوبة لا توصف، التفت فإذا صوت ضئيل يشبه دويّ مفاتيح. لملم بينه وبين نفسه، ولملمتُ بيني وبين نفسي أبغي فتح باب الغرفة. أضغط بكل قوّتي على يد الباب، صحت في الغرفة:
-يا إلهي الباب مسدود!
وأتى إلى مسمعي طقطقة جناحي بطتين تداعبان الماء، وبلغت إلى أذني أصوات غريبة، امتدّ إليها العطف والحنان كما يمتدّ البحر إلى الساحل. أستدير بأذني وسط الغرفة وكأني على ضفة أخرى من العالم. عدت أنتشل برجلي وأدهس في الظلام، تذكرت لتوّي أن المفتاح في سلة مهملة. لكن أيّ ركن من الغرفة؟ فما أسمع إلا دقات مضطربة تصدر عن يدي فوق الجدار. انتهى بي الأمر إلى نجوى الضمير، فأجدني أمد يدي ربما إلى زر كهرباء بعيد. وإذا طيف المفتاح في ذهني ينمحي شيئًا فشيئًا. ثم أخذت جلجلة المفتاح تنقطع فإذا كل شيء حولي قد عاد إلى هيئته الأولى، وأعود أسمع دقات تخفق في صدري رقدت فيه قطرة صغيرة من ماء صافٍ،ولا أكاد أرى سوى ضوءا شديد النحولة بين مرايا نافذة البصر.
عدسة سبينوزا
الكاتب : هيثم همامون
بتاريخ : 24/01/2025