ترامب وطوفان التغيير

فتحي أحمد

في خطاب التنصيب، تطرق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى مارتن لوثر كينغ، الذي يعتبر من أهم الشخصيات التي ناضلت في سبيل الحرية وحقوق الإنسان. في بداية خطابه شكر داعميه في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، وخصوصا السود. هنا لا بد من التذكير بخطاب لوثر كينغ “لديّ حلم”، أشهر خطاب ألقاه في عام 1963، ليشكل رمزا للنضال من أجل الحقوق المدنية ومحاربة التمييز العنصري. وفي العام الذي تلا هذا الخطاب، صدر قانون الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، ليحصل كينغ على جائزة نوبل للسلام. وبعد عقود على هذا الخطاب، تأثرت حياة الأمريكيين من أصل إفريقي في الولايات المتحدة، خاصة في مجالات التعليم والاقتصاد.
واللافت للنظر، أن خطاب ترامب، الذي كان قاسيا عندما اتهم سلفه جو بايدن بارتفاع معدلات الجريمة، قال فيه “حكومتنا فشلت في حماية مواطنينا الذين يلتزمون بالقانون، بينما دافعت عن مجرمين مدانين. لدينا حاليا حكومة تستطيع مواجهة الأزمة في بلدنا، وشاهدنا النيران التي كانت تلتهم المنازل في كاليفورنيا ولم يكن لنا أيّ رد فعل.”
يتضح من التفاصيل التي تكلم عنها ترامب في خطاب التنصيب، أن هناك ملفات كثيرة أمامه، منها زيادة نسبة الضرائب على البضائع الصينية، وإعادة احتلال مضيق بنما، والحد من الهجرة غير الشرعية، وترحيل المخالفين للقوانين الأمريكية المتعلقة بالدخول إلى الولايات المتحدة. كما تخلى ترامب عن وعد الولايات المتحدة في عهد سلفه بايدن بخفض تلوث المناخ بنسبة تصل إلى 66 في المئة في غضون عقد من الزمان.
لقد كان خطاب التنصيب الذي استمر ما يقارب نصف ساعة بمثابة الخطوط العريضة لسياسة ترامب خلال السنوات الأربع القادمة. وقد مرّ على أحداث غزة مرور الكرام عندما قال “بجهودي تم إطلاق سراح الرهائن في الشرق الأوسط،” ولم يذكر إسرائيل بالاسم ولا حتى غزة. يبدو أن مشكلة الشرق الأوسط ستبقى كما عهدناها منذ الأزل، ليست على سلّم الأولويات لدى الإدارة الأمريكية الجديدة.
يطمح ترامب إلى ما هو أبعد، يتطلع إلى الاقتصاد وبناء أمريكا قوية. وهنا أشار ضمنا إلى الصين التي بدت قريبة من مناطق النفوذ الأمريكية بفرض الضرائب على بضائعها، لكنه تراجع عن حظر تطبيق التيك توك الصيني الذي كان ينوي تطبيقه قبل التنصيب بيوم واحد. لهذا وقّع أمرا تنفيذيا يؤجل فرض الحظر على تطبيق المقاطع المصورة القصيرة تيك توك لمدة 75 يوما، بعد أن كان من المقرر إغلاقه في 19 يناير الجاري. وقال إنه “يمكن أن يرى” استحواذ الحكومة الأمريكية على حصة 50 في المئة من التطبيق. وأضاف ترامب “إذا لم توافق الصين على الصفقة، فلن تكون لها قيمة.”
ووفق المعلومات أيضا، فإن ترامب يريد تحقيق كل شيء لبلاده، والمعضلة التي تواجهه هي حقيقة الصين الصاعدة اقتصاديا وعسكريا. فالتنين الصيني ماضٍ في تحقيق ما يصبو إليه، وهو احتلال الاقتصاد العالمي وإزاحة الولايات المتحدة الأمريكية من طريقه. لكن بعد كل هذه الإجراءات، وخصوصا فرض الضرائب بنسبة 25 في المئة على البضائع الصينية، السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل سيؤثر هذا الإجراء على الاقتصاد الصيني؟
تعتقد الولايات المتحدة أن الصين هي المنافس الوحيد الذي لديه النية لإعادة تشكيل النظام الدولي، والقدرات اللازمة لتحقيق ذلك، وتنظر للسنوات العشر القادمة باعتبارها العقد الحاسم في المواجهة مع الصين. وبينما تستهدف روسيا أيضا إعادة هيكلة النظام الدولي، لكنها لا تمتلك من وجهة نظر واشنطن الموارد الكافية لذلك، ومن ثم تضعها كتهديد أمني لأوروبا أكثر من كونها منافسا قطبيا.
الاقتصاد الأمريكي تأثر نتيجة دخول المنتج الصيني إليها، ممّا أدى إلى تضعضع البنية الصناعية الأمريكية. فهل يستطيع ترامب في السنوات الأربع القادمة أن يعيد هبة بلاده التي تآكلت مؤخرا؟
تبنت الصين نهجا في السياسة الخارجية أكثر جرأة واستعدادا للمواجهة، يرتكز على فرض حضورها كمنافس جيوسياسي دولي في مواجهة الهيمنة الغربية. وفي مواجهة الجهود الأمريكية لتقييد دور الصين الدولي، حولت بكين تركيز وانتباه جيشها بأكمله للاستعداد لاحتمالات الحرب. لقد سبق السيف العذل بعدما أطاحت بكين بأغلبية فضاء الولايات المتحدة التجاري والاقتصادي الرحب.
ترامب وضع خارطة طريق لينفذ أجندته، وكأن العالم كله في قبضته، وتناسى خروج الصين كطائر العنقاء من تحت الرماد، اقتصاد قوي وتسليح يبدو قريبا إلى تسليح أمريكا، وأمة صينية كبيرة لا عدّ لها ولا حصر، بالإضافة إلى روسيا التي تحاول إعادة إرثها القديم. فرغم تضعضع وضعها السياسي والعسكري في أوكرانيا، فهي قوة منافسة يحاول ترامب احتواءها بشتى السبل الدبلوماسية. تلك إذن عقبات جمة في طريق ترامب من الصعب تجاوزها بكبسة زر.
موجز القول، لم تعد الولايات المتحدة قوة اقتصادية وحيدة في العالم. الصين تسير نحو بناء اقتصاد قوي قريب للاقتصاد الأمريكي بسرعة الضوء، والأسواق العالمية اليوم مفتوحة أمام بضائعها، خصوصا الأسواق الأمريكية. وقد تأثر الاقتصاد الأمريكي نتيجة دخول المنتج الصيني إليها، والنتيجة كانت إغلاق الكثير من المصانع ممّا أدى إلى تضعضع البنية الصناعية الأمريكية. فهل يستطيع ترامب في السنوات الأربع القادمة أن يعيد هبة بلاده التي تآكلت مؤخرا؟
لقد كان ابن خلدون، وهو يكتب التاريخ ويصحح وقائعه ويستكشف ظواهر العمران البشري، قد خلص إلى أن للدول أعمارا تطول وتقصر، وتمر بدورات طبيعية في مراحل عمرها كما يمر الإنسان من مرحلة الولادة والطفولة ثم النمو والنضج، وأخيرا مرحلة الكهولة والهرم والاضمحلال. من خلال التصور الخلدوني، لا تبقى الدول على حالها. وما يجري في الولايات المتحدة من غزو جنوبي، أعني هنا الهجرة غير الشرعية، وضرائب ترهق كاهل الأمريكيين، وجريمة منظمة، ومنظومة صحية واهنة، وخطر صيني، وغيرها، مؤشرات غير سارة لأمريكا كقطب واحد.
ترامب قد يعول على مواجهة الصين مع تايوان في السنوات القليلة لإضعاف الصين. والصينيون مدركون لهذه المسألة ويتعاملون معها بكل حذر. فهدف الصين اليوم أهم من تايوان، وهو إضعاف أمريكا سياسيا واقتصاديا وعسكريا وغزو العالم. بعدها تكون تايوان لقمة سهلة في أفواههم.