«ميموزا» لصلاح الوديع: سيرة روائية في مواجهة النسيان وتكرار التوحش

في عمل أدبي يفيض بالذاكرة والتاريخ، وبالماضي والحاضر، يقدم الكاتب والشاعر، والمعتقل السياسي المغربي السابق، صلاح الوديع، في إصداره الجديد «ميموزا: سيرة ناجٍ من القرن العشرين»، شهادة حية عن نضاله وتجربته الشخصية،ومعه عائلته ورفاقه، في مواجهة واحدة من أكثر الفترات قسوة في تاريخ المغرب الحديث، هذه الرواية/ السيرة الذاتية، التي تجاوزت كونها مجرد تأريخ شخصي، أصبحت وثيقة ثقافية وسياسية تلقي الضوء على جوانب قبيحة من «سنوات الرصاص» وما حملته من آلام وآمال.
من خلال الكتاب، الصادر عن المركز الثقافي للكتاب، في 600 صفحة من التفاصيل الإنسانية العميقة، يسافر القارئ مع صلاح الوديع في رحلة زمنية تبدأ من طفولة داخل أسرة سياسية، لتتوقف عند محطات مفصلية مثل الاعتقال السياسي، المعاناة داخل السجن، والصمود في وجه آلام الظلم والتعذيب والانتهاكات، حيث الوديع لا يروي قصته فقط، بل يُشرك القارئ في التفكير حول قضايا أكبر، كدور العدالة الانتقالية في المغرب، وإرث هيئة الإنصاف والمصالحة ومخاطر تكرار أخطاء وأوجاع الماضي.
الكتاب يتسم بصراحة نادرة، حيث يطرح كاتبه أسئلة صعبة عن الهوية، العدالة، والحرية، مع انتقاد شجاع لتناقضات المجتمع المغربي، محذراً من مخاطر النسيان الذي قد يُعيد إنتاج نفس الأوجاع، لكنه في المقابل، يقدم رؤية تفاؤلية للمستقبل، داعياً إلى مغرب ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان ويؤسس لمجتمع أكثر عدلاً وتضامناً. ومن خلال صفحات الكتاب، تظهر لحظات إنسانية عميقة، كعناق مؤثر بين الكاتب وشاب من عائلة كانت رمزاً للقمع، ليعبر بذلك عن التسامح الإنساني في أسمى صوره.
وبينما يستحضر الوديع ذكريات عن والدته ووالده، وكيف شكلت رسائلهما وقيمهما العائلية مصدر قوة في مواجهة التفكك الذي فرضه القمع، قد يقف القارئ على أن كتاب «ميموزا» ليس مجرد سرد للماضي، بل هو انعكاس على الحاضر وتحذير من الانجرار إلى دوامة التوحش مجدداً،إذ لم تفت تفاصيل الكتاب الإشارة إلى رموز القهر الإنساني، مثل «تازمامارت»، باعتبارها شواهد على انحراف السلطة عندما تغيب المحاسبة، مؤكداً أن العمل من أجل ترسيخ حقوق الإنسان واجب لا يقبل التقاعس.
يخصص صلاح الوديع في «ميموزا» مساحة للحديث عن الأوضاع الدولية الراهنة، من الحرب الروسية الأوكرانية إلى المأساة الإنسانية في غزة، حيث يدين الصمت الدولي أمام الجرائم الصهيونية المرتكبة بحق الفلسطينيين، ويستحضر معاناة الأطفال في ظل صراع عالمي تغيب فيه القيم الإنسانية، واصفا ذلك ب «الأطفال المرتجفين الذاهلين،الجثث في أكفان مضرجة بطراوة دم الطفولة، وسط صمت مطبق مريب (…) لم يقطعه إلا صراخ الناس الطيبين في شوارع العالم».
في «ميموزا»، يوجه الوديع دعوة صريحة إلى تعزيز التضامن الوطني، محاربة الفساد، إرساء سياسات تعليمية وثقافية متجددة،حُسن توزيع الثروة والقطع مع الإفلات من العقاب، مع التأكيد على أهمية بناء طبقة سياسية واعية وقوية تعمل في إطار ملكية دستورية برلمانية، وبينما يشدد على ضرورة الانفتاح على شعوب العالم والحفاظ على استقلالية المغرب وخصوصيته، يدعو الوديع للحياة، للحب، للإبداع، في حين يجد القارئ دعوة للتفكير العميق، للتغيير الإيجابي، ولإبقاء جذوة الأمل مشتعلة في وجه كل التحديات وكل تفاهات الفضاء الرقمي.
ويكتب الوديع:»أكتب عما عشته – ربما – حتى لا تمحوه الأيام (…) أكتب لأن لكل تجربة فرادة وقيمة في حد ذاتها، باعتبارها معيشا إنسانيا متفردا يستحق أن يُحكى إذا وجد من يحكيه، وكيف يحكيه، ولمن يحكيه، أكتب لأن الحياة ذاتها – بما هي حياة – معجزة تستحق أن تروى، أكتب ضد النسيان، النسيان الذي يهدد كل شيء»، مضيفا: «أعود لأفهم كيف كنا أسرة متراصة متكافلة، فشتتها القمع تشتيتا في البلد وخارجه، لكن دون أن يتمكن من المساس بشيفرتها السرية (…) كما حددتها والدتي في إحدى رسائلها إلى أبي السجين».
تُعرف أعمال صاحب رواية»العريس»بتميزها الجمالي وقدرتها الفائقة على التغلغل في عمق المجتمع، مستمدةً إلهامها من تجربته الذاتية، وقد ساهم انتقاله بين الشعر والرواية في كسر الحواجز التقليدية بين الأجناس الأدبية، مما أتاح له فضاءً من الحرية الإبداعية في سعيه لاستكشاف المعنى وتجسيده بأسلوب فريد والدعوة المفتوحة إلى استلهام دروس الماضي لبناء مستقبل أكثر إشراقاً، ذلك من خلال تعميق النظر في مفاهيم الذاكرة والتاريخ والنسيان من منظور حقوقيوإبداعي يجعل من التذكر واجباً.
ومن بين ما كتبه مثلا في عمله الأخير: «حتى اسم أوفقير ارتبط عند أسرتنا بصورة الشيطان، تزيد الصورة غموضا ونفورا ملامحه المحترقة خلال الحرب العالمية الثانية، والنظارات السوداء الداكنة تغطي وجهه باستمرار، فتضفي عليه مسحة إضافية من الغموض المرعب”، وعن تازمامارت كتب «أصبح هذا المكان رمزا مشينا للقهر المطلق، بل للسادية المنفلتة من عقالها (…) هذه النقاط السوداء على وجه الأرض هي الدليل القاطع على إمكانية الارتداد إلى التوحش في جميع بقاع الأرض وفي كل الأزمان».
صلاح الوديع الذي رضع من ثدي ثريا السقاط، وتلقى أولى حروف حب الوطن وكرامة الإنسان على يد محمد الوديع الآسفي، كان قد انخرط في حركة 23 مارس، ووقع رهن الاعتقال السياسي عام 1974، وحُكم عليه سنة 1977 ب 22 سنة سجنا، ليفرج عنه سنة 1984، ارتبط اسمه بعدة منظمات وجمعيات حقوقية وهيئات إعلامية، من قبيل المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، حركة ضمير، الهيئة العليا للتواصل السمعي البصري، المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، مدينة متضامنة، إلى جانب تجربته كمنشط لبرنامج شعري بالقناة الثانية.
يمتاز صلاح الوديع بشخصية متعددة بأبعادها الإنسانية والإبداعية والحقوقية والسياسية، ومن أعماله المنشورة رواية «العريس» (1998)،»إلهي أشكوهم إليك» (نصوص نثرية) (2010)،»قلق الانتقالات» (نصوص سياسية) (2010)،إلى جانب دواوين شعرية منها»جراح الصدر العاري» (1985)،»لا زال في القلب شيء يستحق الانتباه» (1988) و»لئلا تنثرها الريح» (2010)،فيما قام بترجمة كتاب «المرور إلى الديمقراطية» لكي هيرمي (1998) وديوان «إليك» لسهام بنشقرون (2002).


الكاتب : أحمد بيضي

  

بتاريخ : 31/01/2025