فكرة ترحيل الفلسطينيين: تداعيات كارثية سياسية وإنسانية في ميزان القانون الدولي»

عبد العزيز الخبشي

تندرج تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن ترحيل الفلسطينيين، ضمن سياق أوسع من السياسات التي تبناها خلال ولايته الأولى وما بعدها، والتي تعكس توجها معينا في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية. وقد جاءت هذه التصريحات عقب استقبال ترامب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مما يعكس مدى التوافق بين إدارته والقيادة الإسرائيلية في التعامل مع القضية الفلسطينية. ولفهم أبعاد هذه الفكرة تحليلا علميا متكاملا، ينبغي تناولها من الزوايا السياسية والجيوسياسية والتاريخية والدبلوماسية، إضافة إلى تأثيرها على استقرار المنطقة وردود الفعل الدولية والعربية ومدى إمكانية تنفيذها على أرض الواقع.
سياسيا، تعكس هذه التصريحات رؤية متشددة تتناغم مع التيارات اليمينية المتطرفة داخل الولايات المتحدة وإسرائيل. كما أنها تعكس محاولات لاستخدام القضية الفلسطينية كورقة انتخابية تستهوي قاعدة ناخبة متشددة تدعم السياسات الإسرائيلية دون قيد أو شرط. ومن ناحية أخرى، مثل هذه الأفكار تساهم في تعميق الانقسام داخل المجتمع الدولي حول الحلول الممكنة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث أنها تبتعد تماما عن أي مسار تفاوضي يعترف بحقوق الفلسطينيين.
أما جيوسياسيا، فإن تنفيذ مثل هذه الفكرة يكاد يكون مستحيلا، نظراً للارتباط العضوي للفلسطينيين بأرضهم ولوجودهم المتجذر في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس. وأي محاولة لترحيلهم تعني خرقا فادحا للقانون الدولي وقد تؤدي إلى تصعيد غير مسبوق في المنطقة، خصوصا مع وجود قوى إقليمية مثل إيران وتركيا مستعدة لاستغلال مثل هذه التطورات لتعزيز نفوذها في المنطقة. كما أن الدول المجاورة مثل الأردن ومصر، اللتين لديهما علاقات متشابكة مع القضية الفلسطينية، ستواجهان تداعيات خطيرة على أمنهما الداخلي إذا ما تم دفع أعداد كبيرة من الفلسطينيين عبر حدودهما.
من الناحية التاريخية، تعيد هذه التصريحات إلى الأذهان مشاريع التهجير القسري التي طُرحت في مناسبات مختلفة منذ نكبة 1948، حيث سعت بعض الجهات الإسرائيلية إلى تصفية الوجود الفلسطيني من خلال الترحيل. غير أن صمود الفلسطينيين وارتباطهم بأرضهم منع هذه المشاريع من التحقق. إضافة إلى ذلك، فإن محاولات فرض حلول غير عادلة في الماضي لم تؤد إلا إلى مزيد من التوتر والانفجارات الدورية للصراع.
دبلوماسيا، فإن أي محاولة لترحيل الفلسطينيين ستُواجَه بإدانة واسعة النطاق، سواء من الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو الدول العربية والإسلامية. فالمجتمع الدولي ما زال ملتزما، ولو نظريا، بحل الدولتين كإطار مرجعي لحل النزاع، وترحيل الفلسطينيين سيكون بمثابة إعلان رسمي بانتهاء أي مسار تفاوضي، مما سيؤدي إلى عزلة غير مسبوقة لأي إدارة أمريكية تدعم مثل هذه الطروحات.
غير أنه من الناحية القانونية، فإن هذه الفكرة تتعارض بشكل صارخ مع القوانين الدولية وحقوق الإنسان. فالتهجير القسري يعد جريمة ضد الإنسانية وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، كما أنه يخالف قرارات الأمم المتحدة التي تؤكد على حق الفلسطينيين في البقاء على أراضيهم والعودة إليها، لا سيما القرار 194 الذي ينص على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض. أي محاولة لفرض الترحيل تعني انتهاكاً صارخاً للالتزامات الدولية التي تحمي حقوق الشعوب في أراضيها.
على المستوى الإنساني والاجتماعي، فإن مثل هذه الفكرة تمثل كارثة إنسانية بكل المقاييس، حيث ستؤدي إلى تهجير ملايين الفلسطينيين قسراً، مما سيخلق أزمة لاجئين جديدة تفاقم الأوضاع في الدول المجاورة وتزيد من معاناة الفلسطينيين الذين عانوا لعقود طويلة من الاحتلال والتمييز. التهجير سيؤثر بشكل خطير على الهوية الفلسطينية والتراث الثقافي والتاريخي، حيث سيؤدي إلى طمس المعالم الثقافية والحضارية التي تعكس وجود الفلسطينيين في أرضهم منذ قرون. إضافة إلى ذلك، فإن المعاناة الإنسانية التي قد تنجم عن تهجير جديد ستشمل فقدان السكن، التفكك الأسري، والحرمان من الحقوق الأساسية، مما قد يؤدي إلى أزمات اجتماعية وأمنية متفاقمة في الدول المستقبلة للاجئين.
على مستوى الاستقرار الإقليمي، فإن تنفيذ مثل هذه الفكرة قد يشعل المنطقة بأكملها، حيث سيؤدي إلى انتفاضة فلسطينية جديدة قد تكون أكثر دموية واتساعاً من الانتفاضات السابقة، وربما تشعل نزاعات مسلحة بين إسرائيل ودول الجوار، بما فيها لبنان وسوريا، ناهيك عن إمكانية استغلال الجماعات المسلحة في غزة لهذه الفوضى لتعزيز نفوذها. من جهة أخرى، فإن بعض الدول الخليجية التي بدأت في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل قد تجد نفسها في موقف حرج أمام شعوبها التي ترفض بشكل قاطع أي مساس بالحقوق الفلسطينية.
أما ردود الفعل الدولية والعربية، فمن المتوقع أن تكون حادة. الدول الأوروبية التي تدعم حل الدولتين لن تتسامح مع أي إجراءات تتعارض مع التزاماتها تجاه القانون الدولي، وقد تتخذ خطوات دبلوماسية مثل فرض عقوبات على إسرائيل في حال تبنيها لمثل هذه السياسة. أما على المستوى العربي، فبينما قد تلتزم بعض الأنظمة الصمت أو البيانات الدبلوماسية الخافتة، فإن الشعوب العربية ستتحرك، مما قد يشكل ضغطاً داخلياً على حكوماتها ويؤدي إلى تغيرات غير متوقعة في المشهد السياسي الإقليمي.
من ناحية إمكانية التنفيذ، يواجه هذا الطرح عوائق ضخمة تجعل تطبيقه أقرب إلى المستحيل. الفلسطينيون، رغم معاناتهم الطويلة، ما زالوا متمسكين بأرضهم وحقوقهم، وأي محاولة لفرض التهجير ستؤدي إلى مقاومة عنيفة لن تستطيع إسرائيل ولا أي جهة أخرى احتواءها بسهولة. إضافة إلى ذلك، فإن المواقف الفلسطينية والعربية والدولية تعيق تنفيذ هذه الفكرة بشكل كبير. المقاومة الفلسطينية ستلعب دوراً محورياً في التصدي لمثل هذه المحاولات، سواء عبر الحراك الشعبي أو العمل السياسي والدبلوماسي. كما أن المجتمع الدولي، رغم ازدواجية معاييره في بعض الأحيان، لن يسمح بحدوث تطهير عرقي على هذا النطاق في القرن الحادي والعشرين دون تدخلات دبلوماسية أو حتى عسكرية.
في المجمل، فإن فكرة ترحيل الفلسطينيين ليست فقط غير واقعية، بل إنها تحمل في طياتها بذور كارثة إقليمية ودولية لا يمكن التنبؤ بتداعياتها بالكامل. ومثل هذه التصريحات، حتى وإن كانت غير قابلة للتنفيذ، تؤثر سلبا على المناخ السياسي، إذ تعطي الضوء الأخضر للمتطرفين لتصعيد مواقفهم، مما يجعل أي تسوية سلمية أكثر بعداً عن التحقيق.

الكاتب : عبد العزيز الخبشي - بتاريخ : 08/02/2025