لقاء استثنائي بامتياز، وحدث غير مسبوق، ذاك الذي عرفه مقر المجلس العلمي الأعلى بالرباط، يوم الأحد 9 فبراير 2025م، حيث ضَمَّت قبة القاعة الكبرى البديعة للمجلس، أطيافا وحساسياتٍ وجهاتٍ وممثلين عن مختلف القطاعات الرئيسة في التدبير والتنمية في المغرب. يتعلق الأمر بـ «لقاء تواصلي بين المجلس العلمي الأعلى وخبراء في التنمية»، دعا فيه المجلس أعلاما وممثلين عن مجالات الفلسفة والأمن والاقتصاد والبيئة والقضاء والمجلس الأعلى للحسابات وحقوق الإنسان والأسرة والصحة الجسدية والصحة النفسية؛ وحضره خبراء في الثقافة والتنمية والتدبير والإعلام والمجتمع المدني. إنه لقاء توارَى فيه علماء المجلس العلمي الأعلى، بتواضع الكبار، إلى الكراسي الخلفية للاستماع والإفادة والتفكر.
في البداية، وبعد الافتتاح بآيات من الذكر الحكيم، شرح الكاتب العام للمجلس، د.سعيد شبار في كلمته الافتتاحية أرضيةَ اللقاء وخلفيتَه، موضحا «أن هذه تجربة أولى لاستماع العلماء للخبراء، وهم يتحدثون من منطلق السؤال المطروح عليهم حول دورهم في التبليغ، لذلك فإن العلماء بعد الاستماع والنظر المتفحص في الأفكار سيقترحون الكيفيات التي يمكن أن يستمر بها هذا الحوار غير المسبوق». ويندرج هذا اللقاء التواصلي ضمن مسار «خطة تسديد التبليغ»، بما هي مظهرٌ من مظاهر طفرةِ العلماء ومبادرتهم لتثمير الإيمان في العمل الصالح، وسعيهم لنشر قيم الحياة الطيبة، والإسهام في تخفيض كلفة المجتمع في مختلف القضايا والمشاكل عن طريق تخصيب وتقوية العلاقة التكاملية بين «وازع السلطان ووازع القرآن». وقد طرح الأستاذ شبار في سياق ذلك خمسَ عشرة نقطة بيَّنَ فيها فلسفة «خطة تسديد التبليغ»ومنطلقاتها الأساسية ومعالمها الرئيسة؛ بدءا من اعتبار «الحقيقة المتمثلة في كون الدين يشمل كل ما ينفع الناس حسب فهمهم الفطري المتعارف عليه في العهد النبوي»، إلى التأكيد في النقطة الأخيرةِ على الدور الرفيع للإعلام في بيان مقاصد هذه الخطة ومساراتها؛ حيث نقرأ فيها: «المأمول من الإعلام الصادق أن يواكب هذا المشروع، وأن يساعد على حمايته من الأصناف التي بشرت النبوة بأن العلماء سيحمون منها الدين، وهم الجاهلون الذين ليس لديهم فقه هذا العصر، والمبطلون الذين ينكرون كل شيء ولا يشكرون، والمتطرفون الذين يدعون إلى الفتنة باسم الدين». بهذه الملامح مهَّدت كلمة السيد الكاتب العام للقاء رفيع،جسَّد انفتاحَ العلماء على مختلف خبراء التنمية الفاعلين في الحياة والمجتمع،مثلما ترجم رغبتهم في الإفادة من مختلف التجارب والمسارات على المستويات المعرفية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والمدنية والثقافية.
وقد توالت بعد ذلك مداخلات في غاية النفاسة بسطت رؤى متعددة من زوايا مختلفة لخبراء قادمين من قطاعات متعددة؛ حيث تدخل كل من الفيلسوف علي بنمخلوف؛ والسيد بوبكر سبيك، المراقب العام للأمن الوطني والناطق باسم المديرية العامة للأمن الوطني؛ والسيد فوزي لقجع، الوزير المنتدب المكلف بالميزانية؛ والسيد نزار بركة، وزير التجهيز والماء؛ والسيد مصطفى بايتاس الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان الناطق باسم الحكومة؛ والسيد محمد عبد النباوي رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية؛ والسيدة زينب العدوي، الرئيسة الأولى للمجلس الأعلى للحسابات؛ والسيدة آمنة بوعياش، رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان؛ والسيدة عواطف حيار، الوزيرة السابقة للتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة؛ والسيد خالد آيت الطالب، وزير الصحة السابق؛ والسيد سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة السابق، بصفته خبيرا في الطب النفسي.
وفي ضوء متابعتنا لأشغال هذا اللقاء التواصلي الذي حضره الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى الأستاذ محمد يسف، وسيَّر أطواره العلمية وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية د. أحمد التوفيق، وهي الأشغال التي امتدّت على مدى أكثر من ست ساعات؛ في ضوء ذلك، نبسط ها هنا بعض الإشارات الأولية حول هذا الحدث الاستثنائي الدال:
– إن المتأمل في أهمية الفعاليات المستدعاة لهذا اللقاء من مختلف الاتجاهات والحساسيات والتخصصات والمجالات، ليقف بحق عند ذاك الأفق الرحب الذي يتسم به علماء المجلس العلمي الأعلى وهم يرومون الإصغاء إلى مختلف الخبرات، والإفادة من مختلف الكفاءات، والتعرف على خبايا المعطيات، طلبا لرصد طبيعة تدخلهم ونطاقاتها وأشكالها؛ وكذا لتحديد طبيعة الرهانات المطروحة على مختلف المستويات قصد أخذها بعين الاعتبار في «خطتهم لتسديد التبليغ «؛ بل إن هذا الانفتاح والإصغاء هما مظهران من مظاهر هذا التسديد، حتى لا يبقى الخطابُ التبليغي خطابا عاما ينشدُ المثال والكمال، دون اعتبار التحولات والخصاصات والاحتياجات العميقة التي يعرفها المجتمع، والتي تتطلب تدخل العلماء والوعاظ والمرشدين والأئمة انطلاقا من معارفهم الدينية ومهاراتهم التواصلية واهتماماتهم الاجتماعية ومكانتهم الرمزية والروحية في المجتمع.
– لقد كان دالا، كما أكد الأستاذ أحمد التوفيق وهو ينسِّقُ بألق وحذق تدخلات الخبراء والوزراء، أن يتم افتتاح التدخلات بمداخلة للفيلسوف علي بنمخلوف حول «البواعث الإيمانيّة في الحياة الطيبة»؛ ذلك أن افتتاح المداخلات بالإصغاء للتناول الفلسفي لهذه البواعث فيه إشارة إلى أن علماء المغرب هم حفدةُ الفيلسوف والفقيه أبي الوليد ابن رشد رائد الاتصال بين الحكمة والشريعة، ورمزِ الموافقة والمؤالفة بينهما؛ إذ الحكمة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة كما كان يقول. وهو ما أثبتته مداخلة بنمخلوف، وهو يحلل فلسفيا كثيرا من القيم مثل النية والاختيار والإرادة والانتباه وتطويق نزوعات الأنا…،فاحصا بعض رهانات الإنسان هنا والآن، والتي يشتغل عليها علماءُ المجلس في ضوء المرجعية الوحيانية والميراث المعرفي والروحي والأخلاقي الإسلامي.
– وقفَ الحضور من خلال مختلِف المداخلات، التي شملت مجالات الأمن والاقتصاد والبيئة والقضاء والأسرة وحقوق الإنسان والصحة الجسدية والنفسية..، عند معطيات نفيسة وإحصاءاتٍ دالة وإشكالات مخصوصة، أبرزت الأهمية القصوى لما يؤمن به العلماء من ضرورة الإصغاء إلى الخبراء والمتخصصين قبل أي تدخل علمائي أو اجتهاد فقهي أو خطاب إرشادي تبليغي في مجال من المجالات أو قطاع من القطاعات العلمية أو العملية. وهو ما يدخل في عنايتهم بـ»مقتضيات الأحوال» و»فقه الواقع»، الأمر الذي كان يتم بشكل فردي سابقا، وأصبح اليوم يتخذ في المغرب بعدا مؤسساتيا كما أشار إلى ذلك الأستاذ أحمد التوفيق. ولقد تبين بوضوح وجلاء أن الإصغاءَ للخبراء يبدِّدُ كثيرا من ألوان سوء الفهم والإدراك لعدد من القضايا والإشكالات التي تحوم حولها الأخطاء والأغاليط والأحكام الجائرة من جراء التباس الحق بالباطل في الحديث العام عنها في الفضاء التواصلي العام؛ ولا سيما على مواقع التواصل الاجتماعي.
– لقد عبَّر العلماء عن وسع أفق رفيع وهم ينصتون بوقار واهتمام لمختلف التدخلات، بما فيها تلك التي تنطلق من مرجعيات ومفاهيم لهم عليها تحفظات ومعها تباينات، حيث عبروا، على هذا المستوى، عن تشبعهم بالقبول بالاختلاف والاستعداد للحوار في شتى القضايا والمسائل؛ بل ووعدَ الأستاذ أحمد التوفيق بعَقْد لقاءات حوارية وعلمية خاصة ومتخصصة بين العلماء وبعض المؤسسات حول بعض القضايا التي تستلزم النقاش وتعميق الحوار المعرفي والمرجعي مثل حقوق الإنسان وقضايا المرأة والأسرة…إلخ. وهنا، لابد أن نُشِيد بجميع التدخلات التي أبدت تقديرًا خاصا لدعوة المجلس العلمي الأعلى، واحتراما كبيرا لمبادرته المشهودة، ولعمله النفيس في ظل مؤسسة إمارة المؤمنين، مبرزةً لأهمية الدين في الحياة الخاصة والعامة، والقيمة القيمة القصوى لتدخل العلماء في معالجة مختلف المشاكل قصد تخفيض كلفتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والنفسية على حد سواء.
– لقد خرج المشاركون في هذا اللقاء باقتناع رئيس مفاده أن الحوار بين مختلف الفاعلين، والإصغاء المتبادَل بين العلماء وسائر الخبراء في مختلف المجالات، هو السبيل الأنجع لتناول عدد هائل من القضايا الشائكة، ومن ثم استنفار مختلف الطاقات وزوايا النظر، وفي مقدمتها الزاوية الدينية، للتخفيف من الكلفة الباهظة لتلك القضايا، والتي يؤديها المغرب اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا ونفسيا وتنمويا. وهنا استشعر الحضور، وهم يستمعون لعروض المتدخلين وتشخيصاتهم الدقيقة، حكمةَ العلماء حين استدعوا خبراءَ التنمية من مختلف القطاعات، ليعرفوهم بنطاقات عملهم ويطلبوا منهم تزويدَهم بالمعطيات والخبرات الكفيلة بتقوية تدخلهم في الفضاء العام وتفعيل إسهامهم التخليقي للمجتمع، بتثمير العمل الصالح، واستنهاض قيم التزكية وأسباب بلوغ الحياة الطيبة.
وفي ختام اللقاء، وُزعت وثائق مهمة على الحاضرين، تُعَرِّف بأسس «خطة تسديد التبليغ» ومرجعيتها ورهاناتها وآفاقها. وهي وثائق بقدر ما تكشف عن العمل الكبير الذي يقوم به المجلس العلمي الأعلى في إطار مشروع «خطة تسديد التبليغ» بقدر ما يمثل توزيعُ تلك الوثائق دعوةً رمزية لمواصلة الإصغاء المتبادَل، ومتابعة الحوار المفتوح مع مختلف القطاعات والجهات والمؤسسات، لبلوغ مقصد ترشيد التبليغ، وتثميره في الحياة والمجتمع.