الأعمال الفنية لمحمد أوشان تنبض بالحياة، حتى وإن بدت من حجر وتراب. هي شواهد حية على تاريخ أقوام عاشوا بيننا، وتحمل «توقيعًا صحيحًا» من الزمن الغابر، من زمن المرابطين، الموحدين، الفاطميين، والعلويين.
في أحد أحياء بلدة أجدير، عاصمة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، حيث يتنفس المكان عبق التاريخ، رأى الفنان التشكيلي محمد أوشان النور سنة 1970. نشأ في حضن أسرة محافظة، تتنسم أريج التاريخ وعبق الطبيعة. منذ الصبا، سكنه الماضي العريق، فانطلق في طفولته نحو مروج البلدة، يركض في الفضاء الممتد على مرمى بصره، ويتجول بين حقول وغابات بلدته. من الشاطئ الفسيح ذي الرمال السمراء، مرورًا بسيدي بومدين، وموقع «الحمام» بالقرب من مقبرة المجاهدين، وصولاً إلى «تانوت» بغابة أصفيحة، ثم يعرج على «فيسنا» قبل العودة إلى مسكنه بحي «أوشانن».
بعد مسار مهني قضاه في القرى السياحية لنادي البحر الأبيض المتوسط، استطاع الفنان محمد أوشان أن يغني تجربته الإنسانية والثقافية، وأن ينمي شغفه بالتراث. في هذه الفضاءات، داخل المغرب وخارجه، اطلع على ثقافات عدد من البلدان، وتعزز لديه حس التواصل ومشاركة التجارب الثقافية الأصيلة للشعوب. خلال عمله، اكتشف في سن مبكرة الكنوز الحضارية والثقافية للمغرب، وعايش عن قرب أن عمليات الترويج واستقطاب السياح لا بد أن تستحضر كل ما يحمل روحًا مغربية وثقافة محلية.
«ليالي المغرب» و»السوق المحلي» كانتا تظاهرات أنعشت ذاكرة الفنان أوشان، وأيقظت شغفه الطفولي بالفن والتشكيل. اكتشف في هذا الفضاء مدى العشق الذي يحظى به التراث المغربي وحرف الصناعة التقليدية من طرف السياح الوافدين على المنطقة. وكيف أصبحت «مملكة الثقافات» قبلة لعدد من المثقفين والفنانين، وملهمة لإبداعاتهم. في هذا الفضاء المهني، فتح أوشان عينيه على عالم شاسع، مكنه من توسيع مداركه ومعارفه. لم يعد الفتى يستهويه بناء «قصور الرمال» التي سرعان ما تتهاوى بموج هائج أو بحركة نزقة من رفقاء اللعب.
بعد ذلك، عقد هذا الفنان العصامي العزم على رعاية أحلامه، التي أرادها أن تكون متينة وصلبة، وألا تتهاوى كما ألعابه الرملية في زمن الطفولة. مع تقدمه في العمر ونضج تجربته الفنية، أدرك أنه يمكن له أن يساهم في الحفاظ على جزء من التراث المحلي، كبعض المواقع التاريخية والمآثر التي وصل صداها إلى الآفاق، وظلت شاهدة حتى يومنا هذا على التلاقح الثقافي والعمق الحضاري للريف. فقرر أن يتحول إلى «حارس متطوع» لهذه المآثر و»محافظ فوق العادة» لها. وهكذا، أبدع بطريقته الخاصة، وفي ورشة حرفية غاية في البساطة، مجسمات ونماذج مصغرة من هذه المآثر، بهدف تقديمها للسياح وللناشئة.
داخل فضاءات نادي البحر الأبيض المتوسط، أدرك الفنان محمد أوشان أن التراث والمآثر التاريخية ليست للتحفة فقط، ولا يمكن أن تختزل في نصوص محنطة. التراث بالنسبة لهذا الفنان ليس مجرد قصص ووقائع تُدون في أمهات الكتب بلغة النصر أو الهزيمة، ولا حتى محاضرات تُلقى هنا وهناك. بل هو أفق منفتح على المستقبل، كما هو على الماضي، ومسار تنموي غير متنافس حوله. يمكن أن يكون هذا التراث سبيلًا لتنمية المجتمعات المحلية وعنصرًا للجذب السياحي، خاصة حينما تكون هذه المعالم مشتركًا إنسانيًا يحظى باهتمام الجميع، سواء الأجنبي أو المحلي.
في ورشته، ينهمك الفنان أوشان بشكل شبه يومي في إنجاز أعمال تشكيلية ونحتية غاية في الدقة والإبداع. ظل لسنوات يشتغل على صنع مجسمات ونماذج صغيرة لعدد من مآثر الريف، مستخدمًا موادًا صديقة للبيئة مثل التراب، القصب، التبن، الخشب، والحجر. بدءًا من نماذج لمنازل ودور السكن التقليدي بالمنطقة، وجزيرة النكور وتشكيل فضائها الساحلي والبري، وصولاً إلى مجسمات ونماذج من القلعة الحمراء بأربعاء تاوريرت التي يعود تصميمها إلى المهندس والعسكري الإسباني «إيميليو بلانكو»، وقلعة طريس، وأسوار قلعة اسنادة.
الفنان أوشان يبحث عبر مشروعه الفني «تراث وسياحة» عن منافذ أوسع للتعريف بأعماله الفنية وتقديمها لزوار المنطقة وللأجيال اللاحقة. يريد أن يجعل من المعارض والملتقيات السياحية، وأيضًا عبر استقبال الزوار في ورشته، محطات لاستعادة الماضي واللقاء به، وبناء جسور بين الأزمنة. يعتبر السياحة واحدة من الأنشطة الإنسانية التي يمكن أن تحقق هذا المراد. السياحة التي تسكن هذا الفنان ليست مجرد نشاط اقتصادي، بل هي نشاط ثقافي وإنساني بالدرجة الأولى، وهي القادرة على تشكيل العالم في قرية تنضج بتنوعها واختلافها، ولكن أيضًا بتعايشها مع الآخر وسلامها الدائم.
الفنان محمد أوشان، في مشروعه الفني، يحاول أن يقودك في جولة داخل دروب التاريخ، ويمنحك متعة «السفر في الزمن». مشروع ينتقل، من خلاله، بزوار جوهرة البحر الأبيض المتوسط والمقيمين بوحداتها الفندقية إلى ذلك الماضي البعيد، لاكتشاف التاريخ والجغرافيا. يختصر المسافات ويطوي المسارات. فمن لم يتمكن من الانتقال فعليًا إلى موقع من هذه المواقع، فإن مشروع «تراث وسياحة» يتكفل بذلك عبر مجسمات ونماذج صغيرة شكلتها أنامل حرفيي تعاونية «تراث المزمة»، بقيادة المايسترو محمد أوشان، بعناية ودقة وجمال أخاذ. في انتظار أن تنجز بالمنطقة متاحف وقاعات عروض تتيح لهؤلاء الحرفيين تقديم سفر خاص للزوار، وهم في بهو الفنادق وفضاءاتها المختلفة.
التحدي والشغف قادا «حارس المآثر بالريف» إلى منصة التتويج في دورة الحسيمة من برنامج «إيكو 6»، الذي يعنى بدعم ومواكبة الأشخاص والمقاولات أو التعاونيات التي تعنى بتثمين الحرف اليدوية، الأنشطة الفنية، وتعزيز السياحة في المناطق النائية أو الخلفية. استطاع محمد أوشان وشقيقه جمال أن يحظيا بدعم ومواكبة خبراء هذا البرنامج، وأن يمنحا لمجسماتهما الأثرية المزيد من النبض والحياة. مجسمات حتى وإن بدت من حجر وتراب، فهي شواهد حية على تاريخ أقوام عاشوا في هذه البقعة الجغرافية من المملكة. هي أعمال فنية وتشكيلية تحمل «توقيعًا صحيحًا» من الزمن الغابر، من زمن المرابطين، الموحدين، الفاطميين، والعلويين.