مراكش.. الروح التي تنتج مكانا
تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.
n ماذا عن مراكش الطفولة؟ يبدو أنها كانت تجربة روحية تلتمع في ذاكرتك؟ هل تسترجه بعض تفاصيلها؟ الناس و الحياة و الطقوس و اللغة؟
p من الصَّعب والعسير، أن يتذكر الإنسان – مع توالي الأيام والسنين- ما قد تعيه «ذاكرة الطفولة» من ذكريات، بعضها يتعلق بأطوار مراحل الحياة، وبعضها يتعلق بمعارفه وتجاربه المختلفة، ورُبَّما يجد نفسه – في غالب الأحيان – إنسانا مسوقا بقدر مجهول، لا يلوي على شيء، حين يريد أن يكتب عن أحد فصول حياته، مدفوعا برغبة أكيدة، ليحيي في نفسه فضولا في هذا الأمر، أو ذاك ؛ وتجاوزا في هاته المواقف وتلك، حتى لا يستطيع هذا الإنسان ان يفصل في خبرته ومعارفه، بين التجربة الروحية من جهة، وبين ثقافته ومعارفه من جهة أخرى.
نعم، فنحن أبناء مراكش – في عهد الاستعمار – قد عِشنا في بيئة دينية تقليدية، هيمنت عليها أساليب الطرقية في فضاءات النسيج الاجتماعي الذي كنا نحياه في الحومة والدرب، والسوق، بل في كل أرجاء المدينة، وفضاءاتها الدامجة بين الثقافتين: العالمة والشعبية؛ فهاتان الثقافتان على تنوع مصادرهما، قد حركتا في وجدان «الطفولة» ما كنا نتلقاه ونحن أطفال صغار داخل العائلة التي كانت أحاديثها – يومئذ – تنوب عن تلفاز اليوم، وعن تنوع وسائل الاتصال المختلفة التي تنعم بها الأجيال الصاعدة، أجيال عهد الحرية والاستقلال. لقد كان جيل الحماية يتشبع بما كان يقدم إليه من معارف منخورة، صنعها الاستعمارعلى اختلاف أجناسها الأدبية، وأشكالها الفنية. ومن روائع الحكايات، ما كنا نتلقاه – في شغف ولهف – من قصص الأنبياء، وكرامات الأولياء، ومختارات من أحاديث أدباء المدينة وأعلامها العظماء، ممن تحللت أجسادهم في تربة المدينة، بعدما صنعوا مجدها، وأبدعوا ثقافتها، وتراثها، فاستمروا في المحافظة على حضارتها، ومعالمها، وكل هذا قد ارتبط بالطفولة المبكرة وذكرياتها، لأننا بمجرد تعلم «الكلام» نحن جيل الحماية -، يبدأ تعليمنا التقليدي بحفظ سور من القرءان، ومن متون اللغة العربية والتردد على مساجد المدينة لمتابعة ما كان ينظم بداخلها من دروس تعليمية للصغار، وأخرى توجه للعامة الكبار، في ميادين الفقه، والوعظ، والتاريخ، وعلوم العربية الأخرى . بل كانت هناك – في داخل بعض الدور- تلقى دروس في الوطنية على غير علم من عيون المستعمر يومئذ؛ وفي مرحلة الشباب، كان جيلنا على ضربين:
*- فـَريق من العائلات المراكشية ممَّن كان على وعي بضرورة ثقافة المستعمر، فوجه الأبناء إلى المدارس الحديثة (…)؛ وكان لهؤلاء وغيرهم بالمدينة نشاط حديث يستجيب للحياة الجديدة مع وجود الدخيل الغاشم.
*- وفريق ظل مقاوما لثقافة المستعمر الدخيل، فتمسك بما كانت تقدمه المدارس الحرة من علوم، إلى جانب المقبلين من حفظة القرءان الكريم على ما كان يُلقَى في علوم اللغة العربية بكلية ابن يوسف؛ ولم تعرف المدينة من الأنشطة الثقافية – يومئذ – إلا الوَجه التقليدي، المتمثل في أنشطة «الطرقيين» التي كان الاستعمار يشجعها، ويُدعم القائمين بشؤونها إلى حين.
نعم، ففي هذا المسار، عرف جيلنا مجموعة من المجالس، كانت تنظم في كثير من الزوايا، والأضرحة بالمدينة، ومن أشهرها ما كان يُنظم بضريحي الشيخ أبي العباس السبتي – رضي الله عنه – يوم الأربعاء، والإمام الجزولي شيخ المادحين ليلة الجمعة من كل أسبوع، وعلى هامشها تنظم أنشطة دينية أخرى، حيث كان الكبار ينتظمون في بعض الزوايا بمناسبة الاحتفال بذكرى عيد المولد النبوي ويمارسون مجموعة من «الشطحات» مصحوبة بفن «السَّماع» في حركات ذات إيقاع مُنتظم، تهفو إليه النفوس. وهؤلاء كانوا يتحركون ذات اليمين، وذات الشمال، مع ترديد بعض الأشعار من الفصحى مرة، ومن الزجل المغربي الملحون، مرَّات، ومرَّات، وذلك بقيادة شيخ «الحضرة» وتدريجيا يتسارع إيقاع الذاكرين حتى يغدو في حركاته اهتزازا عنيفا، أقرب إلى «الرَّقص» ويتسارع الإيقاع بدرجة أخرى، حتى يصبح التمييز بين كلمات الذكر مستحيلا ؛ وهذا ما كنا نلاحظه عند الطائفة العيساوية، في زاوية حَومة درب ضباشي، وفي زاوية حَومَة القصبة، وتشاء الأقدار أن ننتقل – مرة أخرى – إلى زاوية الحمدوشيين بحومة روض العروس، حيث نشاهد شذخ الرؤوس، ومظاهر أخرى من العنف وتعذيب النفوس، بل تعد هذه المظاهر العنيفة حركات جنونية لا يطيقها النظر أبدا .
وقد تتاح الفرصة للحضور في محافل التجانيين، والقاسميين، والقادريين، والطالبيين، والتهاميين …
وعند غيرهم من الطوائف الصوفية التي كان لها نشاط ملحوظ في رُبوع المدينة وأحوازها … «يُنظر كتاب التصوف بالمغرب للمؤلف».
نعم، فعند بعض هؤلاء الذاكرين، كنا نشاهد ما كانوا يسمونه ب «العِمارة»، حيث تقوم جماعة من المريدين والأتباع، ينشدون إنشادات في شكل دائرة، وبداخلها شيخ «الحضرة» وترتكز طقوس «العِمارة» على ترديد اسم «الجلالة» في أنغام ملحونة، تجذب بألحانها المستمع ؛ وهذا الترديد ينتقلون – بواسطته – من الحركات الصوتية، والجسدية البطيئة : إنشادا، واهتزازا، إلـَى الحركات المتوسطة وإلى السريعة … ومع ازدياد حِدة السرعة في الشطحات والإنشاد، يتم اختصار اسم الجلالة «الله» في الحَرفين : الأول، والأخير «آهْ» فقط من كلمة «الله»، ويبدأ بعض الذاكرين في الصياح، والخروج عن نسق الإيقاع، فيصرخون ويتصايحون بأصوات مُرتفعة، وبعضهم – في هذه الحالة – يسقط على الأرض مغشيا عليه، وهي – كما يزعمون – حالة من حالات «الجذبة»، وصاحبها مَبروك عند القوم، وله منزلة خاصة داخل جماعة الشيخ …
ومع مرور الأيام والسنين، أصبح جيلنا يتزود بأنشطة حديثة ومعارف فتحت العيون في ميدان التصوف الذي سلم من طفيلية الطرقيين لكن ظلت عوائدنا وتقاليدنا معها جذور تجربة «الطفولة» كمينة في النفوس، شبه جذوة من نار، ترقد بين الرَّماد الساخن، إلى حين الرجوع إليها. فاستيقظت بما كنا – جيل الاستقلال – نتلقاه من دروس على يد نخبة من العلماء السلفيين – يومئذ – بجامعة ابن يوسف.