ليومين اثنين وأنا عاجز عن كتابة جملة أتصالح من خلالها مع فكرة غيابك يا صديقي محمد بن عيسى . صحيح أن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي يتعذر تكذيبها , وصحيح أنه ليس لمن ألِف الموت مثلي، ومن يقف مثلوم القلب على أنقاض بلاد تهدمت ، أن يفاجئه بعد أي رحيل فردي أو خسارة مماثلة، ولكن الصحيح أيضاً أنك أنت بالذات من أتى نبأ موته مدوياً وصادماً إلى حد الذهول والإنكار . ذلك أنك لا تتقاطع مع الموت في أي مظهر أو صورة، وأنت المتربص بالعذوبة كالينابيع، والمحتشد بالفتنة كنظرات العاشقين والصاخب كقصيدة لم تتم كتابتها بعد .
وإذا كانت أصيلة قد أهدتك الحياة قبل ثمانية وثمانين عاماً، فأنت من أسكنتها شغاف قلبك، وأهديتها ضوء عينيك وغلال أحلامك الوفيرة . وكما عمل السياب على تحويل قريته جيكور، المنسية بين نخيل أبي الخصيب، الى محجة دائمة للكتاب ومحبي الشعر، وتحويل نهر بويب الصغير الى أسطورة، أخذت أنت على عاتقك في أواخر سبعينيات القرن المنصرم ومعك ثلة من أترابك الفنانين، المهمة ذاتها والهدف النبيل إياه، جاعلاً من موسم أصيلة الثقافي مسرحاً مفتوحاً للأدب والفكر والفن، ومنصة دورية للتنوير، يتنادى لإذكاء شعلتها مثقفون وسياسون ومبدعون، قادمون من أربع رياح الأرض .
على أنك لم تكن لتصيب النجاح في المهمات الكثيرة التي أنيطت بك ، وزيراً للخارجية والثقافة، وسفيراً لبلادك في أرفع المحافل الدولية وناشطاً ثقافياً باذخ الحضور ، لو لم يكن لك من المؤهلات ما جعلك فريداً في حيويتك،ونادراً في تواضعك، وعميقاً في بساطتك ،وقادراً على التعامل بحنكة مع أكثر صنوف المثقفين نزقاً وفردانية .
ورغم أنني لم أنضم إلى مواسم أصيلة إلا قبل سنوات قليلة خلت، فقد تكفلت دماثة خلقك وابتسامتك الآسرة بتقليص المسافة التي تفصل أحدنا عن الآخر، وبانتقالنا السريع إلى خانة الصداقة، تماماً كما هو حالك مع جميع الذين عرفوك . ولطالما تساءلت منذ لحظة تعارفنا الأولى،كيف استطعت أن « تقسّم جسمك في جسوم كثيرة « كما فعل جدك الأكبر عروة بن الورد ؟ وكيف أمكنك الجمع بين كبرياء المتنبي وهشاشة أبي فراس؟وكيف استطعت أن تختزل في داخلك كل هذا القدر من المفارقات، موائماً بين طراوة الدموع وقسوة الشتاء الغاضب .
لا أعرف يا «سي محمد «، كما يحلو لمواطنيك أن يخاطبوك، كيف هو حال عشيات أصيلة الآن . لا أعرف ما الذي ستفعله من بعدك جدران « زنقاتها « المزينة بالنقوش . وأية غلالة من الحزن سيتلفع بها غروب شموسها على الأطلسي . ولا أعرف جملةً مناسبة أختتم بها هذا الوداع الحزين أفضل من قول غارسيا لوركا في رثاء صديق له « سيمر وقت طويل قبل أن يولد، إن وُلد، رجل بهذا النقاء، وهذا الغنى في المغامرة «.
شوقي بزيع في وداع الراحل محمد بنعيسى

بتاريخ : 07/03/2025