على عتبة التسعين.. رحلة مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني في دروب الحياة والثقافة والفن -10-

أناقة الجسد وأناقة النفس

تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.

n في الحلقة السابقة وقفنا عند نصيحة الشيخ العريان لعلي بن حمدوش، فما كان رده عليها؟

p أجابه الشيخ علي بن حمدوش قائلا ما نصُّه:
«إنَّ القلوبَ إذا أقبلتْ، وَعتْ بما تتلقَّاه، والشَّيخ الْمُربِّي، أدْرَى بما يحتاجُ إلـَيه مُريدُه الـْمُربَّى من علـُوم، ومعارف، تـَستقيمُ بها أحوالـُه … وَوَساطةُ المحبَّة الصادقة بين قلبَيْهمَا، تيسرُ فَهْمَ ما يُلقيه المُحبُّ على مَحبوبه». انتهى قوله.
وأشارَ عليه الشيخ العريان بالرَّحيل إلَى القرويين بفاس، لأخذ العلوم، والـتَّزود – أيضا – بمعارف القوم … ولما ذاع صَيتُه، وشاع، وملأ المجالس والأسماع، اِلتفَّ حوله عدد هائل من تلاميذه وأتباعه، فانتقل بهم إلى «زرهُون»، ثم إلى قرية بني «راشد»، حيث أسس زاويته التي غدت ملاذا أمينا لأصحابه، وقبلة للطَّلبة والوافِدين على زاويته وعلـُومِه من مختلف المعمور، كما كانت زاويتُه العامرة مكانا للتَّكافُل الاجتماعي، ونَزلا رَحْبًا لعابري سبيل، وللفقراء والمساكين. وكان يقول لمن يُمدّ زاويته بالإمدادات – على تنوُّعها، وحاجة الناس إليها -: «هذا من عُربون محبَّتكم، وميثاق غليظ بيننا وبينكم إلى يوم الدين، وشفيع لنا ولَكُم من شُفعاء الحق المُبين ولِمَن يحتاج إلَى معروفِكم، وإحسانِكم، فواصلُوا الإنفاقَ ممَّا جعلكم الله مُستخلَفين فيه»!
وهكذا، فقد اِمتلأتْ زاويتُه بالمُريدين والأتباع من كلِّ حَدبٍ وصوب، ووجدوا في سيرة الشيخ وأخلاقِه، ما جعلَهم يُقبلُون على تعاليمه وتـَوجيهاته، ويُخلصون إخلاصا صادقا لمبادئِه وأهدافِه. ومن تلاميذ عليّ بن حمدوش الذين التفُّوا به، وأخذوا عنه الطريقة بالعَهد والصُّحبة، ما أشارَ إليه المؤرخ، عبد الرحمن بن زيدان في «الأتحاف».
فقد أشارَ إلى تلميذه ووارثِ سِرِّه، الشيخ أحمد الدغوغي، دفين قرية بني راشِد، وإلى الشيخ محمد يوسف، المَدعو «الحمدوشي»، والمتوفَّى بفاس سنة: 1154 هجرية، والسَّيد أبي عبد الله محمَّد المَدعو – أيضا – «الحمدوشي»، والسيد قاسِم من بني «مسارة» من الجبل، وأبي عليّ الحسَن بن مبارك، دفين حَومة «بُوعوادة» بمكناس، والشريف الكتاني، المتوفَّى بفاس، سنة: 1214 هـ وغيرهم كثير، عـُدُّو من أقطابِ مُعاصريهم، الذين تشبَّـثـوا بما أخذوه عن الشاذليين والجزوليين والقاسميين، فهؤلاء قد شكـَّلوا «النواة الأولىَ» للطريقة الحمدوشية، وتأسيس فُروع «الزَّاوية» في مختلف جِهات المعمور: شرقِه وغَربه، شماله وجنوبِه.
اختلف المؤرخون حول تاريخ وفاة الشيخ عليّ بن حمدوش – رضي الله عنه – فمنهم من أشارَ إلى وفاتِه سنة: 1131 هجرية، ومنهم من كان يُرجّح أن وفاته كانت سنة: 1135 هجرية، أي أواخِر الرُّبع الأول من القَرن الثامن عشر الميلادي. والمتفق عليه، أنَّه دُفِن بزرهون، بقرية بني «راشِد»، ولايزال قبره مزارا للوافدين عليه من مختلف المُدن والقـُرى، والأحواز، وإلى اليوم.

n ماهي مجالاتُ التـَّهذيب والتـَّعذيب في رُسومِ الطريقة الحمدوشية، وفي مَراسيم عادات، وتقاليد الأتباع والمريدين؟ وكيف حدث هذا الانتقال الغريب؟

p في العهود الأولى – وبخاصة في حياة الشيخ – برزت مظاهر التّهذيب في ما كان يدُعو إليه الشيخ من تـَعاليم وتوجيهات. ويلاحظ المتتبع أن الحمدوشي – رضي الله عنه – سايَر طقوس العيساويين والقاسميين في الأوراد والأذكار والأحزاب، وميَّز طريقتَه بشيء أملته ظروفُه المحيطة به، وهذا الشيء، هو سرُّ ذيوع الطريقة وانتشارها. جعل منه شيخا لا يَضَع فاصلا يفصله بين أتباعه ومُريديه: زَنْبيلا، ومنديلا، وقنديلا … ولما كان تشبع علي بن حمدوش بالطريقة «الشاذلية» وبعلوم شُيوخها، وأتباعها، فقد كان شديدَ الحِرص على أناقة «الجَسَد»، وأناقة «النفس» وسُئل – يوما -: ماذا تعني أناقة الجسد، وأناقة النفس؟ فقال – رضي الله عنه -:
«الأولَى أن يَكُون المُريد حَسَن المَظهر، والثانية أن يكون حسن السِّيرة والخلق… فلا تحصلُ الأولَى إلا بحصُول نتائج الثانية، ولا تحصل الثانية إلا بحصول نتائج الأولى، وقد كان يستشهد ببعض أقوال أبي الحسن الشاذلي – رضي الله عنه – ومنها قوله : «النفسُ وَمَا زكَّاها، فألْهَمَها فجورَها، وتـَقواها…» فإمَّا أن تكُون قد تدنَّت وسفلت في مَراتِع خُبثها، ورُعونتها … فسبيل الأولى – وهِي النَّفس اللَّوَامَة – استقامة، وتخلقٌّ بالخلق الحسَن، وسَبيلُ الثانية – وهي النفس الأمارة – انحراف، وخُروج عن جادَّة الصَّواب « !!.
ومن مَزايا تعاليم الشيخ عليّ بن حمدوش، بَل من مظاهر تشبُّعه بأفكار أبي الحسَن الشاذلي أنه كان يُعلي من شأن «العقل» في تصرفات وسلُوك الأتباع والمريدين، فيُحارب – بشدة وصَلابة – مظاهر «الخُرافات» التي كانت تروج في عالم «المناقب، والكرامات» وكان يُردد – على لسانه – ما كان يقوله سفيان بن عيِّـنة: «ليس العاقِل الذي يَعرف الخَير والشَّر ولكن العاقل هو الذي يعرف الخير فيتبعه، ويعرف الشر فيتجنَّبه.
وَحَدث – يوما – أن رأى بن حمدوش أحد أتباعه يُجادل شخصا آخر في حضرته في غير استحياء. وقد تصرَّف في سلوكه تصرفا طائشا، لا يقوده عقْلُ عاقِل، ولا يُسانده شرعُ شارع، فَغَضِب الشيخ غضبتَه في الله المعهودة، ثم اِلتفت إلى هذا الرَّجل وقال له: «لقد حادَ بك طَيشُك عن شاطئنا، ومالَ عقلُك عن مقاصد طريقتنا … فالأمر كله عندنا لا ينالهُ إلاَّ النُّساك العُقلاء !!» انتهى قوله.

 


الكاتب : n إعداد: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 12/03/2025