على عتبة التسعين.. رحلة مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني في دروب الحياة والثقافة والفن -13-

حومات وعادات

تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.

*في الحلقة السابقة تحدثت عن بعض العادات التي ابتدعها أتباع الطريقة الحمدوشية، لنعد إلى ما تتذكرونه من طفولتكم: هل شاهدتَ من هذه الممارسات في مراكش حينها؟
* ذكروا أنه من علامة التَّخلف والجهل، أن يتحكَّم الأمواتُ في الأحياء، وإلى اليوم، تمارس الجماعة الشعبية العريضة ألوانا من مشاهد الضلال والانحراف، بل بعض هذه العادات، يتجاوز به ممارسوها عتبَة الدين، وفي مؤلفَّنا: مَسالك صوفية للطريقة الحمدوشية رسالة في هذا الموضوع، وجهناها إلى هؤلاء ليقفوا بأنفسهم على ما دَعَا إليه الشيخ الحمدوشي في حياته في ظل التَّصوف السني، وهو من ثوابت الأمة المغربية.
أمَّا ما جاء في بعض العادات والتقاليد المراكشية، مما شهدته طفولتي، وبقي في الذاكرة ما يخبر عنها بتفصيل ؛ بل ما ذاع في حَومات المدينة أيام زمان في باب الفرجة والتسلية لدى جماعة العوام، فهذا اللون قد تعددت مصائبه بتعدد معتنقيه، وفضاءاته في الأحياء والحومات، بل لا يمكن الحديث عنه دون أن أتذكر – في حماس– زَهْوَ المراكشيين بممارسته والتَّشبث العَميق به في كثير من المناسبات على اختلاف أزمانها وإلــى حين ؛ وسوف أذكر لك ما اشتهر من هذه العادات الفاسدة والمتناقضة في أهدافها وما ترمز إليه في عهود أيام زمان على التوالي :
– شَرْشْمَة …
– التَّخْريجَة …
– شْطَاطـُو …
– خْوابِي النـّْيَالْ …
– الخطبَة …
– تـَهْراسْ الكْاسْ …
– صْبَاحْ الـَقـْبَرْ …
– سَلْطَانْ الطلبة …
– لـَمشْايْشَة …
– هـَرّْمَا …
– تـَاقـُورَة …
– ذِيالتْ عـَاشُوراء …
– حَنـَّتْ الـْمَزْوَارَاتْ …
– عَرْسْ القـُرءَانْ إلخ …
هَناك عاداتُ أخرَى، تتوزَّع بين ما هو شعائري صُوفي، عَقَدِي، وما هو اجتماعي ترفيهي … وفي جَولتنا الفسيحة بداخل حومات المدينة العتيقة، سوف أشيرُ – من حين لحين – إلى العادات المذكورة أعلاه. فعادة أكل «الزبيب» بالإبرة – مثلا- هي مُرتبطة بحِرَفٍ معينة، ومناسبات دينية، وفنية، توزَّعت على فضاءات متعددة لحومات مراكش، وتُمارس في شهر رمضان من طرف بعض الطوائف الصوفية في الإذن للمريد بالمشيخة، وعند أهل الملحون بمناسبة إعطاء لقب «حفَّاظ» وتمارس هذه العادة بضريح سيدي «جابر» بحومة الزاوية العباسية، ولهذه العادة طقوس، لم يبق منها أثر ملحوظ في حظيرة أهل الملحون، ولا في فضاءات المتصوفة ؛ ومن مقاصدها اختبار شيخ الكريحة(أي المنشد الذي يطلب الإذن من شيخه ليحضر مجالس المنشدين الذين صادق عليهم «شيخ الجماعة» ، ولا يتأتَّى هذا إلا باختباره في يوم مشهود، من أيام الاحتفال بذكرى مولد الرَّسول –عليه الصلاة والسلام )، أو المريد حين يطلب «الإذن» من الشيخ لتأسيس جماعة يكون على رأسها، مسؤولا عن تدبير أحوالها ؛ ومن حومة الزاوية العباسية، ننتقل في هذا السياق إلى حومة (بَنْصَالَحْ)، وفيها كان «الجزَّارُون» يَقومون بعادة «شَرشْمَة» وهي خليط من القطاني، تـُوضع في ركن من أركان ضريح سيدي بنصالح للطيور، لتشهد على ظلم الظالم في زَعمهم (يزعم هؤلاء بهذه العادة أن الولي يأخذ الثأر من الظالم الذي لم يجد المظلوم بابا يُفتح في وَجهه ليأخذ حقِّه بأية طريقة من الطرق.)، واحتفالا بالوَلي الذي كان جزارا في عهد المرينيين على المشهور. ومن حومة بنصالح، ننتقل – مرة أخرى – إلى حومة «سيدي أيوب»، حيث ينظم الصيادون تجمعاتهم، سواء منهم البريون، أو البحريون، الذين يأتون من مدينة آسفي لقراءة أوراد الشيخ، والمشاركــة في شعائر الاحتفالات الصوفية(كانت تمارس احتفالات الصياديين بضريح سيدي أيوب- رحمه الله ، أيام «سبع مواسم» ، وهو اليوم السابع من أيام عيد المولد النبوي الشريف، ويحضر هؤلاء من جميع جهات المغرب، مع عرفاء الزوايا التي ينتمون إليها ؛ وفي بداية الحفل ، تقرأ سورة «الكهف» والمعوذتين، ثم يعقبها حزب شيخ الجماعة، وأثناء القراءة يُوضع حَبلٌ مَفتُول، يتكون من سبع عقد، يقطع عند نهاية القراءة، ويُوزَّع على سبع طوائف؛ ومن زعمهم في هذا الأمر، أن هذا الحبل أثر من بَركة الشيخ «سيدي أيوب» سلمَّه في حياته إلَى بعض مُريديه من مدينة آسفي ، والحبل يعني شبكة الصيد في البحر، ومن أعرافهم – أيضا – أن يبيت أحد العرفاء من مدينة آسفي داخل الضريح ثلاثة أيام، ليتذكر بعض تعاليم الشيخ، أو يُكشف لديه الحجاب لفهم ما غمض عنه من مَعاني حزب الشيخ، أو ما قد صعب شرحه، وهو من الأحزاب الطويلة، ومن محفوظات قدماء الضريح، وإلى اليوم، لم نعثر له على أثر ضمن محفوظات أهل التَّصوف بمراكش (مُريدو الطَّوائف الصوفية) .
ومن حَومة «سيدي أيوب» ننتقل إلـَى حَومة سيدي «عبد العزيز التباع» حيث يقوم «الحرارون» أيْ صنَّاع الحرير، والممارسون لأثوابه على اختلاف جَودتها، تبركًا بالوَلي الصالح الذي كان صانعا، وبائعا للحرير في القرن العاشر الهجري، ولهؤلاء المُريدين عادة وضع «إناء البَركة» قرب الضريح بداخله زيت الزيتون، وبعض الأعشاب من حقول الشيخ بروض العروس، وهي الحومَة القريبة من حَومة سيدي عبد العزيز، ولا تزال هذه العادة تمارس عند المصابين بمَرض الجلد إلَى اليوم ؛ ومن أعرافهم، أن يُقرأْ كتاب «دلائل الخيرات» لشيخ شيخهم : شيخ المادحين الجزولي – رضي الله عنه -، يوم إقامة الاحتفال بالرجال السَّبعة بمناسبة ذكرى عيد المولد النبوي. وننتقل من حَومة «سيدي عبد العزيز التباع»، إلى حَومة «السَّبتيين»، وتنطقها العامة «اِسبتيين»، وهي الحومة التي تستقبل طائفة «لَمحلَّة» بساحتها الكبرى في يوم مَشهود، بمناسبة ذكرى مولد الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وسكانها الأوائل، من أهل مدينة سبتة، وكانوا ينظمون طقوسا، تتخذ شكلا احتفاليا صوفيا، ويَطوفون أرجاء المدينة. إذن، فهي رحلة صوفية عبر حومات مراكش، تتألف من عرفاء الأضرحة، ورُؤساء الطوائف الموجودة – يومئذ – بمراكش؛ وفي عوائد هؤلاء الشيء الطريف الجميل والمفيد، وفيها – أيضا – المُرتبطة بالشعوذة وتضليل العامة مما حارَبه بعضُ العلماءِ في مختلف منابر الوعظ والإرشاد في كل جهة من جهات المعمور !.


الكاتب : n إعداد: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 15/03/2025