المقاول والقرار السياسي: المضاربات نموذجا!

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.com
طرح السؤال نفسه، بسيطا وهادئا، لكن قويا، ومقلقا: إذا لم يستطع هؤلاء معرفة رجال المضاربات وأعشاش اللوبيات وطريقة عملهم، فمن يستطيع يا ترى فعل ذلك؟
«هؤلاء «كان الزميل يقصد بهم رجال الأعمال في الحكومة وفي أحزابها المستقوية بهم، والخبراء والكفاءات الذين تم تجميدهم في التشكيلة الأولى وفي التعديل في منتصف الطريق. هؤلاء هم كل الذين اختلفنا في تسميتهم، من بداية الاستقلال .
بورجوازية كامبرادورية، تارة وتارات أخرى بورجوازية الدولة، نخبة المملكة حينًا ورأسمالية الدولة أو رأسمالية التواطؤات أحيانا أخرى، لكنهم في التعريف المستحدث في السياسة والإعلام والدراسات بخصوص موقع السلطة وطرق المال كأحد مفاتيح فهْم السياسة في بلادنا، على الأقل من الانتخابات الأخيرة.هم رجال المال والأعمال والكفاءات . بحيث أن الاهتمام بسلوكهم عندما « يلجون السياسة»، صار ضروريا في فهم آليات الهيمنة على المؤسسات بالمراهنة السياسية عليهم.
المقاولون ليس لهم تاريخ في الفعل السياسي، في اللحظة الوطنية الأولى، كانوا يصنفون عادة من مجموعات الأسر المشتغلة بالتجارة .. البرجوازية أو الفاعلين الاقتصاديين ..وتسمية مقاولون حديثة العهد هي ذاتها لعلها ارتبطت مع ميلاد كونفدرالية أرباب العمل في التسعينيات ومع الأحزاب التي بدأت البحث عنهم للانتخابات ( كتاب سعيد الطنجاوي” المقاولون المغاربة السلطة المجتمع والحداثة “كان أول كتاب يخصص موضوعه للمقاولين في المغرب).
وصرنا اليوم في معادلة الانتقال من البرجوازي إلى المقاول .!
طوال تشكل الوطنية المغربية والدولة، وقبلها في معارك الاستقلال، ظلت الصفة اللصيقة بالفاعلين الأثرياء، في تشكيل الوطن وفي الفعل السياسي، ذات طبيعة متكتمة: تعبيرا عن بعض «التعفف» حينا، وانحيازا إلى براغماتية حذرة« بالمشاركة في صناعة القرار، بعيدا عن آليات الوساطة السياسية المعروفة والمقننة.. وتفاديا للقمع السياسي في الأوقات الرصاصية من التهاب الجمر الوطني.
أولا، كان لا بد من العودة إلى المكتبات التي تناولت الرأسمال الوطني، والبحث عن تعلقه مع اللحظة المغربية الحالية، إضافة إلى ما تحصل في تقنيات تدبير الحكم في المغرب من خلالها. وتبين من قراءة بعضها( آخرها كتاب قيم للغاية بقلم إيرين بونوIrene Bono، العالمة السياسية في جامعة تورينو، الصادر سنة 2024 حول أحمد بنكيران، المقاول والسياسي الوطني الذي عاش التجربة حول الرأسمال الوطني والمقاولة في علاقتها السياسية طوال مغرب الاستقلال.. وهو كتاب من حوالي 550 صفحة.
ففي تتبع آثار المقاولة والسياسة، نقف على ما يلي:
-الرجل الثري (المقاول) ممثل للرأسمالية المغربية أو الرأسمال المغربي. هذا الأخير هو بذاته ما زال يتطلب مجهودات لإصلاحه، وهي مجهودات مستمرة إلى حدود الآن، سواء كان صاحبه فاعلا خاصا منذ البداية أو فاعلا مؤسساتيا عموميا انتقل إلى صنف المقاولين.. ويمكن أن نراهن على أن يجعل من إصلاح نفسه مناسبة لإصلاح مؤسسات البلاد،. كما يمكن أن نراهن بأنه يرى في الإصلاح فعلا يتجاوب مع مطالبه وبالتالي يجتهد في تقديره وتعميمه.
السؤال: إلى أي حد استطاع بالفعل أن يخلق هذا الأفق من خلال ما يجري في مجال هو من صميم فلسفة وجوده مثل مجال المضاربات كما في تضارب المصالح؟
ـ الرأسمال المغربي له نظرة مزدوجة إلى الوطن، فهو الجسم الاجتماعي، فهذا الأخير بالنسبة له أصل الثروة ومصدر إنتاجها، ولكنه في الوقت نفسه هو الجسد الذي يستهلك الثروة ذاتها… الملاحظة التي حصل حولها نوع من الإجماع في الدراسات المذكورة، هي أن «تعدد وتنوع أشكال الاقتناء لم تسر متوازية مع تعدد في أشكال التوزيع».. وبالتالي فلحد الساعة لم نشهد مساهمة قوية في إعادة النظر في الطابع الموسوم بعدم المساواة واللاعدالة في المنظومة الاجتماعية الوطنية..
ـ الفعل السياسي النشيط، المرتبط بالأشخاص، ظل محصورا. ولا يتعدى لائحة معينة.والحال أن العلوم السياسية لا تهتم بالمقاول سواء كان ذلك بواسطة مجموعات الضغط..( اللوبيات) كما هو معروف، أو عند الدخول إلى المعترك السياسي مباشرة.« إلا عندما ينخرط في المعركة الحزبية».. وذلك بالتركيز على «كفاءاته المفترضة في مجال نشاطه المقاولاتي، والتي قد تستفيد منها الحياة السياسية»!
ولعل بعض المؤلفات عالجت الموضوع من زاوية منعطف إديولوجي شامل جعلت من المقاولين ورجال الأعمال عنصرا ونقطة إيجابية ونقطة قوة وفئة اجتماعية تنقل جدارتها في الحكامة باعتبارها نقطة أخلاقية إلى قطاعات أخرى غير الاقتصاد، وقد تابعنا حوار رئيس الحكومة مع الزميل البلهيسي حول هاته النقطة ومبرراته في تسويغ التعديل الحكومي الأخير التي جاء بها..
ـ قد يمكن أن نقول بأن العلاقة بين القرار السياسي والمقاولة نضج وتغير عميق، إذا ما نحن استحضرنا العلاقة أيام الراحل الحسن الثاني ثم ما عرف بعمليات التطهير في نهاية 1995.
وقتها كان أحد وجوه الرأسمال الوطني، إدريس جطو، وزيرا للتجارة والصناعة التقليدية في حكومة الفيلالي الثانية.. في حين كان إدريس الآخر، البصري، عنوان القطيعة بين رجال المال والسلطة..
في عملية التطهير، وضع المرحوم الحسن الثاني الوزراء، أمالو وزير العدل آنذاك، والبصري والقباج وزير المالية، على علم، في حين تملص الوزير الأول عبد اللطيف الفيلالي من المسؤولية.بالمرض… في اجتماع لهم وقتها في ولاية الدارالبيضاء فبراير 1996 ضم قرابة 400 رجل أعمال، تحدث إدريس البصري عن 4500 رجل أعمال ملفاتهم جاهزة للإحالة على القضاء.. وبعدها سيعرف الجميع أن صاحب القرار الأصلي فيها هو الحسن الثاني.. كما يتضح من شهادة أحمد بنكيران، الذي روى ما دار بين الملك الراحل ورجال الأعمال عند استقبال “الباطرونا” في قاعة العرش، وقال لهم في مكتبه من بعد، «التطهير كان قراري أنا، لأنكم أصبحتم جد متعجرفين!: جعلناكم تربحون المال الوفير، ولا تكتفون بعدم المساهمة في أي شيء فقط بل أنتم توجهون لنا الضربات».. وقتها كانت حملة بناء مسجد الحسن الثاني تلقى معارضة رجال الأعمال وتلكئهم مع ما يرافق ذلك من أحاديث غاضبة في الصالونات.
هاته العجرفة، ألا تكون إحدى ميزات الرأسمال الحكومي اليوم. يخفي في الوقت ذاته ضعفا مؤسساتيا إزاء لوبيات قوية تصنع وجوده السياسي نفسه؟
سننتظر ونجازف بالقول بأن الرأسمال الوطني المشارك في القرار السياسي يساهم في نشر فلسفة النيوليبرالية كما بدأت تتكرس في بلادنا. مع التنبيه إلى أن النيوليبرالية لا تقدم وجهها السافر بل عادة ما تتلفع بالحكامة الجيدة وخلق التناسق بين العام والخاص. وتشجيع التنافسية والكفاءة والنجاح المالي بالربح.. إلخ.. وهي تتقدم أيضا بعناوين مغرية، المانجمانت» والبينشمارك والاعتراف الدولي إلخ.. بوسائل وآليات نيوليبرالية صارت مألوفة: الشراكة بين القطاعين العام والخاص، الوكالات المستقلة.. عقود التفويت .إلخ.
ويتعزز هذا التواجد الذي يضمنه رجال الأعمال، بوجود الفاعلين الآخرين الذين يعملون في العديد من التشكيلات بما فيها الخبراء ( “ماكنزي” والاستقرار النهائي في تدبير القرارات ) والمجتمع المدني البورجوازي على المستويين الثقافي والاجتماعي ( ياسمين الفيلالي، نجاة مجيد، مريم بنجلون..) إضافة إلى الإسلاميين، الذي «أطروا نظريا » نيوليبرالية حلال، عكس أحزاب الكتلة التي قاومت بسط شروط الممولين الدوليين مثلا ) ..
ـ إلى هؤلاء الذين سبقوا، انضاف التقنوقراط من مهندسي الاقتصاد والمالية: وهم يعملون على انتقاد إدارة الدولة العمومية وممارسات الحكومات، والدفع باتجاه ممارسات تتماشى مع السوق وتتلاءم مع المقاولة..هؤلاء حملة فن النيوليبرالية في الحكم..(أمثال حصاد وأحيزون ) ومنهم مسؤولون كبار فاعلون خواص انخرطوا في الفعل العمومي عن طريق دوائر السلطة المرتبطة بالمؤسسات الكبرى ( سعد بنديدي وكريم زاز مثلا ) ووصلوا إلى قلب الدولة..انضافت إليهم طبقة جديدة قادمة من التعليم العالي في مدرستي المحمدية والحسنية( نموذج أنس العلمي وربيع لخليع ومولاي حفيظ العلمي ) ..
إذن للعودة إلى السؤال الأول لا يمكن أن نفهم المسألة بشكل معزول، بل من خلال هذا التشبيك القوي والمتفاعلة عناصره بين بعضها البعض في صناعة المناخ السياسي العام، لاسيما في اتخاذ القرار، ثم في «الجوار النيوليبرالي» الذي أصبحت آراؤه مسألة مطلوبة وبل يتنافس فيها المتنافسون..
فقط أن المضاربات لا تخضع لهذه العقلانية في التدبير بل هي الشكل المنفلت لسلطوية الفساد وقواعد اللعب، من خارج المنظومة المؤسساتية والأخلاقية لتدبير شؤون الدولة والمجتمع، هل أجبْتُ عن سؤال زميلي ؟ الله والحكومة أعلم.!
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.com - بتاريخ : 17/03/2025