على مر العصور، أثارت الظواهر الخارقة للطبيعة اهتمام البشر، متجاوزة الحدود الثقافية والاجتماعية والزمنية. فمن الغموض الذي يحيط بالأشباح والأرواح إلى التجارب القريبة من الموت، تثير هذه الظواهر مزيجا من الخوف، الفضول، والانبهار. يعود انتشار هذه المعتقدات إلى عوامل متعددة، أبرزها الحاجة الإنسانية لفهم المجهول، تفسير الظواهر الغامضة، والبحث عن إجابات للأسئلة العميقة حول الحياة، الموت، وما بعدهما.
ساهمت الروايات الشفهية، الحكايات الشعبية، والتجارب الشخصية في تثبيت هذه المعتقدات عبر العصور، كما يظهر في وفرة القصص حول الأشباح، الساحرات، الوحوش، والقوى الخارقة التي تناقلتها الأجيال.
كان للظواهر الخارقة للطبيعة تأثير كبير على السينما والفنون، إذ وجد فيها الكتاب وصناع الأفلام كنزا لا ينضب، وساهمت أفلام الرعب، القصص المثيرة، والتعبيرات الفنية في تشكيل التصورات العامة حول ما هو خارق للطبيعة، حيث امتزج الخوف بالجاذبية، مما خلق فضاء أصبح فيه الخيال انعكاسا للمخاوف والعواطف البشرية.
نستعرض في هذه الحلقات عددا من الأماكن في العالم التي اشتهرت بقصص الرعب، وتداول الناس حكاياتها ما بين مصدق ومشكك، حيث شكلت، بشكل أو بآخر، المخيال الجماعي عبر عدة أجيال. فمن القصور المهجورة إلى المستشفيات المسكونة، ومن القرى الغامضة إلى الفنادق التي تحيط بها الأساطير، سنخوض رحلة عبر هذه المواقع التي ظلت
محورا للجدل والخوف والدهشة.
في بلدة بيلميث دي لا موراليدا (Belmez de la Moraleda) ، وهي قرية صغيرة تقع في مقاطعة خاين، بمنطقة الأندلس، جنوب إسبانيا، يعتبر لغز «وجوه بيلميث» أحد أكثر الظواهر الخارقة للعادة إثارة للجدل، وتعود جذور هذه القصة إلى عام 1971 عندما ادّعت ماريا غوميز بيريرا، وهي امرأة تعيش في منزل بسيط، أنها لاحظت ظهور وجه بشري غامض على أرضية المطبخ الإسمنتي.
زعمت ماريا أنها حاولت تنظيف البقعة، لكنها استمرت في الظهور والاختفاء، مما أثار قلقها ودفعها لإبلاغ عائلتها. مع مرور الوقت، لم يظهر وجه واحد فقط، بل بدأت عدة وجوه أخرى تتشكل، بعضها بدا وكأنه يتحول مع الزمن، مما جعل السكان المحليين يعتقدون أن المكان مسكون بأرواح غامضة.
ما زاد من الرعب أن هذه الوجوه كانت تبدو وكأنها تغير تعابيرها، وأحيانا تختفي لتظهر مجددا في أماكن أخرى، ما أدى إلى جذب اهتمام السكان المحليين، بالإضافة إلى الباحثين ووسائل الإعلام.
رغم أن الظاهرة الأساسية تمثلت في وجوه على الأرض، إلا أن السكان بدأوا لاحقا بالإبلاغ عن حوادث غريبة أخرى، منها ظهور شبح امرأة ترتدي ملابس بيضاء، وأكد بعض الجيران والزوار أنهم شاهدوا امرأة شبح تتجول حول المنزل، بل وحتى داخل أرجائه.
تم ربط سيدة الأبيض بروح امرأة يعتقد أنها قتلت أو ماتت ميتة مأساوية في زمن بعيد، خاصة بعد أن كشفت التحقيقات عن وجود بقايا بشرية مدفونة تحت المنزل.
في محاولة لوضع حد لهذه الظواهر، أجريت حفريات تحت أرضية المطبخ، حيث ظهرت الوجوه لأول مرة، وهناك تم العثور على هياكل عظمية بشرية، وبعضها يحمل آثار عنف وجماجم مكسورة. انتشرت التكهنات بأنهم ربما كانوا ضحايا جرائم قتل أو إعدامات، ربما خلال الحرب الأهلية الإسبانية أو حتى في أزمنة أقدم.
بالإضافة إلى الوجوه وسيدة الأبيض، أبلغ السكان والزوار عن ظواهر غير مفسرة أخرى، أبواب تفتح وتغلق وحدها، أصوات خطوات وهمهمات في غرف فارغة، أضواء تومض بلا سبب، وظلال تنساب على الجدران مع إحساس بوجود أشخاص غير مرئيين، ثم شعور مفاجئ بالبرد. بعض الزوار قالوا إنهم رأوا كوابيس متكررة بعد زيارتهم للمنزل، وتضمنت امرأة ترتدي الأبيض تطلب المساعدة.
في بعض الروايات، شبهت سيدة الأبيض في بيلميث بـ «الرفقة المقدسة»، وهي موكب أرواح يظهر في الطرق الريفية، حسب الفولكلور الغاليسي وشمال إسبانيا.
هؤلاء الأرواح يرتدون ملابس بيضاء ويحملون مشاعل، ويعتبر ظهورهم نذيرا بالموت، أو تحذيرا بوجود سر يجب كشفه.
يرى الروحانيون أن وجوه بيلميث وسيدة الأبيض هي مظاهر لأرواح محتجزة، تحاول التواصل مع الأحياء. ووفقا لهذا الرأي، كانت ماريا غوميث كامارا بمثابة وسيط روحي دون قصد، وساعدت على ظهور هذه الوجوه والظواهر.
هناك نظرية أخرى تقول إن الوجوه وسيدة الأبيض هي آثار نفسية تركتها الأحداث المأساوية التي وقعت في ذلك المكان، ويقال إن المشاعر القوية مثل الألم والخوف، يمكن أن تترك «بصمة» على المكان، فتظهر كصور أو طيف.
رغم شهرة الظاهرة، فقد ظهرت شكوك حول صحتها. اتهم بعض النقاد سكان المنزل بتزييف الوجوه باستخدام مواد كيميائية، وخلصت بعض الدراسات العلمية إلى أن الأمر قد يكون خدعة متعمدة. مع ذلك، لم يتم إثبات حدوث خداع بشكل قاطع، وشهد بعض الباحثين بأن الظواهر التي شاهدوها لا يمكن تفسيرها بسهولة.
أصبح منزل «وجوه بيلميث» مزارا لعشاق الماورائيات والباحثين عن الظواهر الغامضة، وحتى بعد وفاة ماريا غوميث كامارا عام 2004، استمرت الوجوه في الظهور، ولم تتوقف شهادات رؤية سيدة الأبيض.
رغم بعض الادعاءات التي تفيد بأن وجوه بيلميث قد تكون مزيفة، إلا أن السكان المحليين لا يزالون يؤمنون بأنها حقيقية، ولا تزال ظاهرة سيدة الأبيض ووجوه بيلميث واحدة من أكثر القصص المحيرة في إسبانيا. حتى اليوم، لا توجد إجابة قاطعة ترضي الجميع، مما جعل القصة تتحول إلى جزء من التراث الشعبي الإسباني.