في رواية «مشكلة سبينوزا» لإرفين د. يالوم، نقرأ على ما يلي: «التفت هتلر إلى ألفريد، وقال: «آه باعتبارك صحفيا، أرجو أن توافقني الرأي بأن الحقيقة هي كل ما يصدقه عامة الناس….»..». لا تهم الحقيقة «الواقعية» ما دامت الحقيقة تعتمد على نحو كلي على الأداء الإعلامي، لأن هذا هو ما يؤثر بالفعل في تكوين الصورة العامة للقوة المهيمنة. ولهذا يستثمر الغرب ثروة هائلة لبناء قوته الإعلامية وإنشاء وسائل إعلامية تحقق أهداف سياساتها الخارجية وتؤثر في اتجاهات الجماهير في دول العالم.
يرى الباحث الاجتماعي الأمريكي بيتر تييل أن «هناك قضية أخرى قد تم تهميشها هي قضية المستقبل. والحال، أن فكرة المستقبل قد لعبت لفترة طويلة في الغرب دور الرافعة النقدية. لنتخيل مستقبلا سيكون أكثر اختلافا عن الحاضر، إن هذه الفكرة ستكون طريقة لفك الارتباط عن الاتفاقات التي تهيمن على الحاضر وتسد علينا منفذا نحو الحقيقة. إنها الوظيفة التي طالما حركت كبار القادة السياسيين، مثل مارتن لوثر كينغ: لقد كان مسكونا بحلم أمة خالية من أي تفرقة عرقية، صحيح أنه لم يكن حقيقة، لكنه جسد صورة مستقبل ممكن ومغاير للحاضر. لنطرح على أنفسنا السؤال التالي: متى سبق لزعماء العالم الغربي، أن قدموا، لأخر مرة، صورة بديلة للمستقبل؟ إن آخر خطاب من هذا النوع الذي يمكن أن أتذكره هو خطاب رونالد ريغان عام 1987 الذي ألقاه أمام حائط برلين: باسم رؤية أخرى للمستقبل، تجاسر في تصريحه: «سيدي غورباتشوف، فلتهدموا هذا الحائط الذي يعد خطأ وظلما!». غير أن بيتر تييل نسي، ربما، أن الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، هو الذي رفع شعار: «أمريكا أولا»، وهو الذي أعلن أن أمريكا هي القوة الأكبر، ويجب على جميع الدول، بما فيها الحليفة التقليدية (أوروبا)، وعلى الجميع أن يدفع لها، وهو الذي أمر ببناء جدار عال مع المكسيك وعرض فكرة جديدة للجدار الذي يريد بناءه على حدود المكسيك، تقضي بتغطيته بألواح شمسية واستخدام الطاقة المولدة لتسديد تكاليف البناء.
ويذهب بيير مانو إلى أن الطبقة السياسية في أوروبا فقدت كل الثقة في قدرتها على تسيير دفة الحكم. «كل هذا يحدث كما لو أن هدف السياسة، والذي هو تجميع الأطراف في بوثقة واحدة، أن تتجاوز، من الآن فصاعدا، مؤهلاتنا. زد أنه بسبب تنوع السكان والعوائد الأخلاقية، يبدو أن هذا الهدف يبقى خارج المتناول. فبما أننا عاجزون تماما عن إنتاج وحدة سياسية واقعية، فإننا ملزمون أن نتكلم كما لو أن الوحدة الإنسانية كانت قائمة هنا سلفا. إن المسلك السليم سياسيا هو اللسان الاصطناعي للناس الذين يرتعشون من فكرة عما يمكن أن يحدث لو كفوا عن الافتراء عن أنفسهم. غير أن هذا الأمر مرتبط أساسا، وأنت في ذلك على حق، بفقدان الثقة بفكرة الحقيقة. صحيح أننا قد أعددنا جداريات عظيمة عن تاريخ الإنسانية لكن تلافينا إثارة مسألة الحقيقة. فنحن نقابل، على سبيل المثال بين حقبتين كبريتين من تاريخ الإنسانية، حقبة «holiste» حيث اعتقد فيها الناس كافة بالإله، وحقبة النزوع الفرداني حيث أن جميع الناس صاروا عادة بلا اعتقاد. هكذا هو شأن الكائن الإنساني- من حيث هو دوما مستغرق برأي مهيمن على عصره- لن يجد نفسه في وضعية تتيح له حرية التساؤل عما هو حقيقي. وفي المقابل، أعتقد أنه طالما سنظل كائنات إنسانية، فإن الحقيقة ستستمر، بلا أدنى شك، في مداها وخطورتها. فلا وجود لفكرة أكثر بطلانا وإذلالا من فكرة أن التاريخ قد صمم من أجلنا».