الحكومة والهروب الكبير

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
تعطي أحزاب الأغلبية الانطباع بأنها على وشك مغادرة سفينة الحكومة في عملية هروب كبيرة شرعت فيها بمجرد أن التهبت نيران الأسعار. اللهب أظهر أنانية كل واحد منها: أنا وبعدي… النيران. لن نعود إلى تفاصيل التنديد بالمضاربين ( هؤلاء الذين انتظموا في عصابات بعضها سياسي ولم نتجرأ بعد على تسميتهم باللصوص !)، ولا ما حازوه من أموال طائلة، تُسبب الدوران للطبقة الوسطى والوسطى العليا، فما بالك بالفقراء وكل المصابين بداء الهشاشة المكتسبة. لن نتحدث عن حديث الوزراء عن لوائحهم ولا عن صرف الأموال لهم، ولا ما فعلوه بقوت المغاربة كلهم.. الصور صارت واضحة علينا أن نطرح السؤال الذي لابد منه: ماذا وراء هذا الهروب الجماعي للحكومة من مسؤولية تردى الوضع المعيشي للمغاربة وحرمانهم من أبسط ظروف التخفيف قصد الحياة؟
لن نقع في فخ انعدام الانسجام، ولن تبيض حالة الهروب بهُزال في العاطفة المتبادلة بين أطراف الثلاثي المتغول، لتفسير الهروب الجماعي من المسؤولية، ونطرح السؤال المباشر والحاد والحقيقي: ما هي رسالة الحكومة من إعلان عجزها أمام المضاربين وتمكينهم من الملايير ضدا على الوطن والشعب، ولماذا هذا البَوْحُ التحليلنفسي بالعجز الظاهر؟
– هل تستغل الحكومة الوضع لكي تلقي المسؤولية على ظهر “جهات” أخرى باستعمال “بلاغة الجلابة« “؟
– هل تنتظر الحكومة، شعوريا أو لا شعوريا، تدخلا ملكيا لإنقاذها كما فعل جلالته عندما أنقذ شعبه من اللصوص والمضاربة وتشناقت؟
– هل تُلمح إلى وجود من يعرقل قوتها المؤسساتية (ولا يتركها تشتغل؟) ويعطل قراراتها (إن وجدت؟).
إن هذا الفيض من الإقرار بالعجز الظاهر يفرض علينا فعلا هاته الأسئلة !
وعليه، يفرض في الوقت نفسه تلمس بعض الأجوبة، ومنها :
– لقد كان الملك واضحا في خطابه أمام البرلمان في أول جلسة دستورية، المرافقة لتنصيب الحكومة، عندما وضع تشريحا… للوضع الذي ورثته الحكومة، وكل أرقامه كانت خضراء وإيجابية.
– وقد كان الملك واضحا أكثر من مرة (خطاب الذكرى 17 لعيد العرش)، في رفض إعلان القيامة مع اقتراب الانتخابات، ورفض التعلل بالعجز أو وجود المعرقلين: : من لا يستطيع، ليقدم استقالته.
ولعل من أخلاق المسؤولية أن تعلن الحكومة “ما يشبه الاستقالة«”، وذلك بإعلان نقد ذاتي، وتشريح مسؤوليتها الأخلاقية في ما يعيشه المغاربة.
ليست نهاية العالم إذا قالت الحكومة إنها عجزت أمام “كمشة” من المضاربين لا سلاح لهم سوى الغش و…… عجزها.
ليست نهاية السياسة إذا قالت إنها وضعت المغاربة بين الفقر (4 مليون و 200ألف فقير مطلق)، والبطالة (مليون ونصف عاطل) وغلاء المعيشة (لهيب الأسعار).
هذا الهروب الكبير له كلفته من الديمقراطية أيضا. إنه يكرس نظرة سلبية عن قدرة السياسة والديمقراطية على تغيير أوضاع الناس، وبالتالي الدفع بهم إلى الكفر بالمؤسسات.
وأحزاب الحكومة تساعد على العزوف أكثر وعلى الكفر أكثر عندما تحول الاقتراع من الصناديق إلى القفف! “الجود يمقراطية”«، ومشتقاتها، حتى تصبح القيم الديمقراطية والمؤسساتية مجرد تمرين على من… »”يُقَفِف« أحسن”، وهذا التبخيس قادر على أن يُوَلِّد كل أنواع الشعبوية والنزعات المتطرفة واستصغار المؤسسات.
نُصِرُّ كمناضلين يعرفون ما قطعته البلاد من أشواط هائلة، نُصِرُّ على أن ننظر إلى النصف المملوء من الكأس، لكن من مفارقات نصف الكأس المملوء أن قطاعات واسعة من الشعب لا تراه إلا إذا شَرَبَتْ مِنْهُ !
ومن مفارقات الوضع الذي تدفعنا إليه الحكومة أن هروبها الكبير يجعل من العدمية أو التشاؤم .. موقفا واقعيا وربما نبيلا، عندما يهرب الكل من سفينة المسؤولية والحس السليم للسياسة !
إن أهم ما جاء به دستور 2011 بخصوص التنصيص على ربط المسؤولية بالمحاسبة، لا يقف فقط عند إعطاء الشرعية لممارسة السلطة والتفكير فيها من زاوية جديدة تهم أولوية الأتعاب على التعيين بل كذلك إعطاب معنى رفيع للمسؤولية، والحكومة تعلي من السلطة وتتنكر للمسؤولية.
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 20/03/2025