بعد أن استعرضنا في الجزء الأول أهم الأفكار والأطروحات التي تأسست عليها مواقف منظمة « إلى الأمام» و « منظمة 23 مارس» و» ولنخدم الشعب»،
نستعرض في هذا الجزء أهم الأطروحات النظرية والسياسية للفقيد عبد السلام المودن، وللأستاذ علال الأزهر المنبهي بوصفهما قياديين بارزين من مؤسسي اليسار المغربي الجديد، ومن الكوادر التاريخية لمنظمة 23 مارس. وتلتقي كتابات الفقيد عبد السلام المودن، وكتابات الأستاذ علال الأزهر في دحض الأطروحات الانفصالية، في أبعادها السياسية، والوطنية، والقومية، والاشتراكية في مرحلة دقيقة من الصراع الداخلي الذي كان يتجاذب مواقف التنظيمات الثلاثة، سواء من داخل تجربة السجن ، أو خارجه. ولتيسير مقروئية هذه المواضيع سنعمل على استعراض أهم مضامينها، وخلاصاتها حسب التسلسل الوارد في المصدرين اللذين اعتمدناهما في انجاز هذا الملف.
12.- الخلط بين مفهوم الدولة الوطنية والتحرر الاقتصادي
«إن النظام المغربي تبعي للإمبريالية، ولذلك فإن استرجاع الصحراء في ظل هذا النظام لا يعني تحررها من التبعية للرأسمال الإمبريالي». هذا هو المنطق الذي يفكر به أصحاب تقرير المصير .
في هذا الصدد ،يتساءل الفقيد عبد السلام المودن «ما علاقة الشروط الاقتصادية للتحرر الوطني، المعروفة منذ زمن طويل والتي لا يمكن إنكارها، بالمسألة السياسية التي نحن بصدد مناقشتها والمتعلقة بالتحرر السياسي من الاضطهاد الإمبريالي، المتمثل في بتر أطراف ترابية من الدولة المغربية؟ !
إن المسألة المطروحة ليست مسألة تحرر اقتصادي للصحراء، بل مسألة حق سياسي للمغرب في رسم حدود ديمقراطية لدولته الوطنية، وهي الحدود التي شوهتها الكولونيالية الإمبريالية، ثم ما موقف الماركسية من هذا الحق الديمقراطي؟
إن أصحاب تقرير المصير عندما يركزون على الجانب الاقتصادي، إنما يسقطون بذلك في الخلط بين الشروط الاقتصادية لتحرر الدولة الوطنية وبين الدولة الوطنية نفسها، التي لا تعني في الجوهر سوى الاستقلال السياسي، أي حقها في المساواة في الوجود السياسي مع باقي دول العالم، وحقها في السيادة السياسية على مجموع ترابها الوطني.
إن هذا الكلام يقودنا إلى مناقشة مفهوم الدولة الوطنية بشيء من التفصيل.
ما معنى الدولة الوطنية؟ في أي إطار يمكن تصنيف دول مثل المغرب والسعودية والأرجنتين وكوريا ج؟ هل هي دول وطنية أم لا؟
إن نفس السؤال قد طرح في السنوات العشر الأولى من هذا القرن، داخل الأحزاب الاشتراكية الماركسية الأوربية، وأثارا جدلا حادا بين قادة تلك الأحزاب وعلى رأسهم كاوتسكي، وروزا لكسمبورغ، ولينين.
لقد أثير هذا النقاش عندما نشر كاوتسكي سنة 1909 دراسة عنوانها «الأممية والمسألة الوطنية»، حيث أطلق فيها مفهوم الدولة الوطنية على الدول الأوروبية الخاضعة للإمبرالية التي كان أبرزها رومانيا واليونان ودول بلقانية أخرى.
إن روزا لكسمبروغ كانت أول المنتقدين لأطروحات كاوتسكي، ولقد تصدت بعنف شديد لمفهوم الدولة الوطنية الذي استعمله كاوتسكي بالنسبة للدول التابعة للإمبريالية، وقد عللت رأيها ذاك بالحجة التالية: في عصر الإمبريالية يستحيل على الدول الصغرى الخاضعة لهيمنة الرأسمال الامبريالي أن تكون دولا وطنية. ثم عمدت إلى تحليل اقتصادي مفصل للبرهنة على أن اقتصاد الدول الصغرى تابع تبعية تامة للرأسمال الاحتكاري الامبريالي. وفي الختام عارضت مفهوم الدولة الوطنية بمفهوم «الدولة – الفريسة».
إن لينين قد تدخل بدوره في هذا النقاش، فماذا كان موقفه؟ .لقد اتفق مع كاوتسكي على المضمون الذي أعطاه لمفهوم الدولة الوطنية، ثم أخضع انتقادات روزا لكسمبورغ لذلك المفهوم لحملة قاسية من النقد اللاذع. فقد اعتبر انتقاداتها لكاوتسكي «مثيرة للسخرية» واعتبر آراءها «صبيانية». فلقد قال:
«فنحن عندما نقرأ هذا النوع من التحليل، لا يمكن لنا إلا أن نفاجأ سبب عجز الكاتبة عن إدراك المسألة المحددة التي هي بالضبط مجال النقاش. إن تلقين كاوتسكي دروسا مثل: أن الدول الصغرى تابعة اقتصاديا للدول الكبرى، وأن الدول البورجوازية تتصارع بينها من أجل سحق ونهب الأمم الأخرى، وأن هناك امبريالية وهناك مستعمرات.. هو من قبيل الكلام الصبياني المثير للسخرية، لأن كل هذا الكلام لا علاقة له البتة بالموضوع». (لينين – المؤلفات – المجلد 20 – الطبعة الفرنسية ص 421).
ثم يضيف لينين قائلا:
“ليست الدول الصغرى وحدها، بل إن روسيا نفسها تابعة بشكل تام، من الناحية الإقتصادية، إلى الرأسمال الإمبريالي المالي للبلدان البورجوازية الغنية».
(المصدر السابق).
ثم يقول:
«إن كل هذه الأشياء، بطبيعة الحال، يعرفها جيدا كاوتسكي وكل ماركسي آخر. إلا أن هذه المسائل لا علاقة لها بالمطلق، بالدولة الوطنية». (نفس المصدر).
ويقول:
«لقد استبدلت روزا لكسمورغ مسألة استقلال الأمة كدولة بمسألة التحرر الإقتصادي لتلك الدولة» (نفس المصدر).
ثم يختتم لينين قوله قائلا:
«إنه لمن الخطأ فهم عبارة الدولة الوطنية، بمعنى آخر غير معنى الوجود كدولة متميزة» (نفس المصدر).
والخلاصة إذن، هي أن الخطأ الذي سقطت فيه روزا لكسمبورغ، والقائم على الخلط بين مفهوم الدولة الوطنية (الذي لا يتعدى السيادة السياسية الوطنية)، والتحرر الإقتصادي، هو نفس الخطأ الذي وقع فيه اليوم أصحاب تقرير المصير، عندما لم يميزوا بين التحرر السياسي للصحراء وتحريرها الإقتصادي.
إن هذا التمييز بين العامل الإقتصادي والعامل السياسي في المسألة الوطنية، واضح مثلا في الطريقة التي تعامل بها الصينيون مؤخرا مع مسألة هونكونغ. فهم عندما أرادوا استرجاع هذه الجزيرة إلى السيادة الوطنية، لم يشترطوا على الإمبريالية الإنجليزية ضرورة تغيير النظام الإقتصادي للجزيرة، أي تحويله إلى نظام اشتراكي مشابه للنظام القائم في جمهورية الصين الشعبية، بل لقد قادوا مفاوضاتهم مع الحكومة الإنجليزية على قاعدة هذا المبدأ: «بلد واحد، ونظامان اقتصاديان اثنان».
وهذا معناه بكل بساطة، أن الحكومة الإشتراكية الصينية قبلت أن تظل هونكونغ، بعد عودتها إلى السيادة الصينية، تابعة للرأسمال الإمبريالي الإنجليزي والرأسمال الغربي بوجه عام. وهذا الموقف سديد تماما لأنه يلتقي مع المفهوم اللنيني للدولة الوطنية الذي لا يربط وجودها بالتحرر الإقتصادي. ففي مثل هذه الحالات، إن حل المسألة الوطنية يعتبر مقدمةضرورية من أجل إنضاج شروط حل المسألة الإجتماعية (التحرر الإقتصادي).
وحسب عبد السلام المودن إذا رجعنا إلى تاريخ حركات التحرر الوطني. فإننا نجد نموذجين من ذلك التحرر: النموذج الذي تحقق فيه في نفس الوقت، التحرر الوطني (الإستقلال السياسي عن الدولة الكولونالية) والتحرر الإقتصادي (التحرر من الإستغلال الرأسمالي والمحلي). وهذا النمودج قد قادته أحزاب اشتراكية بروليتارية في إطار جبهة وطنية ديمقراطية.
أما النموذج الثاني، ومنه المغرب، فهو لم يحقق سوى التحرر الوطني (جزئيا بالنسبة للحالة المغربية). ولقد كانت القيادة الطبقية لهذا النموذج تحت سيطرة البورجوازية.
والخلاصة التي انتهى اليها الكاتب» هي أن الدولة المغربية الحالية، رغم أن الطبقة السائدة فيها هي البورجوازية الكبرى، ورغم أن هذه الطبقة خاضعة اقتصاديا للإمبريالية، إلا أنه مع ذلك، فإن تلك الدولة دولة وطنية لأن لها وجود سياسي متميز عن الدولة الإمبريالية التي تستغلها إقتصاديا.