في حضرة الوطن… حين يُشوه المعنى باسم القيم

عبد اللطيف كداي

لا يحدث التشويه في الحقول الهامشية من الوعي، بل غالبا في مركزه… فحين تُلبس الإشاعة لبوس «الحق»، وحين يُهرب الحقد عبر قنوات «الحرية»، وحين يُهاجم الوطن من داخل قاموس العدالة نفسها، نكون قد دخلنا مرحلة دقيقة من التاريخ، حيث لا يكفي أن نعرف، بل يجب أن نقف، وأن نشهد.
في مجتمعات مضطربة الرموز، حيث تتحول الحقيقة إلى احتمال، والإشاعة إلى خبر، يصبح الدفاع عن الوطن ليس فقط مسؤولية سياسية، بل واجبا وجوديا وفكريا، يقع على عاتق من يمتلكون أدوات التفكيك، لا أدوات التهريج؛ من يصنعون المعنى، لا من يعيدون تدوير الضجيج.
ما نعيشه اليوم، من حملات التشويش الموجهة ضد المغرب، ليس مجرد تراشق إعلامي أو نزاع تأويلات حول «شحنة سفينة».
إنه انعكاس لتحول أخطر: تحول في أنماط الهيمنة، حيث لم تعد السيطرة تُمارس على الأرض فقط، بل على الصور، وعلى الرموز، وسرديات الانتماء.
إنه بمعنى آخر أوضح: استهداف لما يجسده بلدنا من استقلالية في القرار، وتوازن في التموقع، وقدرة على رفض الاصطفاف القسري في عالم يُعيد تشكيل خرائطه بالقوة الناعمة تارة، وبالفوضى الرمزية تارة أخرى.
لقد تحولت الإشاعة، في زمن ما بعد الحقيقة، إلى نظام رمزي قائم بذاته؛
نظام لا يطلب البرهان، بل يُراكم الصدى.
لا يُنتج الوعي، بل يُنتج الضجيج.
ومن المؤلم أن بعضًا من بني الجلدة صاروا وكلاء لهذا النظام، عن قصد أو عن غفلة، ناسخين أباطيل تصدر من غرف التحكم الناعمة، وملقين بها على جمهور متعطش لمعنى ما… حتى لو كان ملوثا.
نحن لا نواجه مجرد خطاب مضلل، بل نمطا معرفيا هجينا، يُفرغ الحق من مضمونه، ويُلبس الارتزاق قناع المبدئية، ويحول الدفاع عن الأوطان إلى جريمة، والصمت أمام تشويهها إلى فضيلة.
لكننا، من موقعنا كمشتغلين بالمعرفة، نعرف أن الرمز لا يُرد عليه بالصراخ، بل بالتفكيك. نعرف أن الحقيقة لا تُستعاد بالتبرير، بل بإعادة بناء المعنى،
وأن الوطني، في زمن الالتباس، ليس من يكتفي بالولاء، بل من يجرؤ على قول ما لا يُقال: أن ثمة كراهية منظمة، تُسَوق باسم المبادئ، وعلينا فضحها.
المغرب ليس حالة عابرة في الجغرافيا السياسية، بل هو كيان يراكم الشرعية ببطء، ويقود تحوله بأناة، ويدفع ثمن استقلاليته في معركة لا تُخاض فقط بالسلاح أو الاقتصاد، بل بالوجود التاريخي أيضا.
ونحن، في قلب هذه المعركة الرمزية، لا نكتب لندافع عن مؤسساتنا فقط، بل لنستعيد الحق في امتلاك سرديتنا الجماعية، بعيدا عن إسقاطات الخارج، وبمنأى عن ارتباكات الداخل.
إننا لا نواجه خطابا آخر… بل نواجه نموذجا خطابيا يُراد له أن يُصبح هو الأصل.
ولذلك، فإن الرد لا يجب أن يكون بالانفعال، بل بإنتاج معرفة تقطع مع الاستلاب، وترسّخ مسؤولية الكلمة، وتعيد للوطني معناه النبيل: فأن نرد على البهتان لا يعني أن نُسكت الصوت المعارض، بل أن نفرّق بين النقد النبيل والبناء والعداء المقنّع.
وأن نحرس الوطن، لا يعني أن نُصنّمه، بل أن نحول دون تدنيسه في سوق التأويلات المسمومة.
نحن نؤمن أن الوطن ليس حكاية حدود، بل مشروعا معنويا، يتجدد ما دامت هناك نُخب تفكر، وتتفكر، وتنتصب للدفاع عنه لا بالشعارات، بل بتأويل المعنى، وتصحيح البوصلة، وترميم الثقة الجماعية.

الكاتب : عبد اللطيف كداي - بتاريخ : 23/04/2025