تكريما لمسار شاعر يسير «بعكس الماء» محمد بنطلحة شاعر التخريق والتمزيق الباحث عما لم يُنجز

احتفاء بتجربته الشعرية المتفردة ضمن ديوان القصيدة المغربية، واعترافا بمسار شعري راهن لأكثر من 5 عقود على التجديد والمغايرة والتأصيل ضمن تشعب خصيب في أرض الشعرية العربية المعاصرة، احتفت وزارة الثقافة وضمن فعاليات الدورة 30 من المعرض الدولي للكتاب، بمايسترو “نشيد البجع” وبطائر “يربح الأرض ويخسر السماء” الشاعر المغربي محمد بنطلحة.
اللقاء الاحتفائي الذي شارك فيه بأوراق أضاءت هذه التجربة، محاولة التوغل في سراديبها من أجل القبض على المعنى كل من الشاعرة والروائية ثريا ماجدولين والكاتب والمترجم والناشر والسيميائي محمد بن الرافه البكري، أكد خلاله الناقد والشاعر خالد بلقاسم أن قيمة الدروب التي خطها مسار بنطلحة في أرض الكتابة لا تنفصل عما هيأته تجربته للكتابة من دروب للقراءة والتأويل، مضيفا أنه مسار لا يكف الشاعر المحتفى به عن بلورة نداءاته التي “تحتاج سماعا خاصا لمحاورتها وتأويلها”، مركزا على نداءين يتعلق أولهما بقدرته على جعل اللغة “تقول شيوع اللانهائي في ومضة خاطفة” وثانيهما يتعلق بنداء الذات في الكتابة، وهو” نداء قادم من فكر شعري تجود به تجربة حية نفذت إلى سؤال الذات بتوغل شعري خصيب”.
بدورها اعتبرت صاحبة “سماء لا تشبهني” الناقدة والشاعرة ثريا ماجدولين أن تجربة محمد بنطلحة استثنائية لشاعر “لايكتفي بتقديم المتعة الجمالية في قصيدته فقط، بل يدفعنا إلى إعادة التفكير في مفهوم الشعر والكتابة”، مضيفة أنه حرر القصيدة من أسر النموذج، معتمدا كتابة مفتوحة تمزج بين التأمل الفلسفي والتجريب الجمالي، لهذا فهي قصيدة لا تواجَه من الخارج بل تُخاض من الداخل، أي “من عمق حركيتها وانزياحاتها، ومن تربتها التي لا تتم من الاكتمال، بل من القلق الوجودي الثاوي داخلها”.
وأشارت ماجدولين إلى أن هذا الحفر العميق في طبقات القول الشعري بوعي حاد بالكتابة وإشكالية الوجود هو ما جعل قصيدة بنطلحة مفتوحة دوما على ما لم يُكتب، هو الذي يدفع بالمعنى إلى أقصى حالات التخفي والانفلات لاستدراج القارئ إلى التأويل.. هذا القارئ، تضيف مؤلفة “أثر الطير”، الذي عليه إعادة تشكيل قصائد بنطلحة مع كل عبور في القراءة، مشاركا إياه الكتابة و”مقيما معه في القصيدة لا خارجها”.
وختمت ماجدولين مداخلتها بأن قصيدة بنطلحة تتأسس على كتابة تركيبية تقض الطمأنينة التأويلية تقدحها “شرارة تعبر من الجرح إلى العبارة”.
الناقد والسينمائي وناشر أعمال بنطلحة “بعكس الماء” و”الجسر والهاوية” و”صفير في تلك الأدراج” و”ليتي أعمى”، محمد البكري، وهو يشبه بنطلحة بـ “صانع الزجاج الذي يهوى تهشيم القوارير”، أبدى عجزه عن القبض على نصوص بنطلحة لأنه، ببساطة، لا يستطيع أن يلخصه أو يختزله أو “يرجعه إلى خانات أو أفكار محدودة أو نظريات مسبقة”.
وأضاف البكري أن الشاعر ومنذ “دمعته الأخيرة” التي نشرها في 1970، طرح سؤال الذات والوجود والكتابة بمعناها العميق وبمعناها الإشكالي، وهو السؤال الذي انهمر في “دمعة أخيرة” واستمر سيالا إلى قصيدته “محاولة في التركيب” في ديوانه الأخير “سأنتظر حتى يتنفس البرنز”.
ولفت البكري إلى أن طرح بنطلحة لسؤال الكتابة مع حرقة الوجود الإنساني والاجتماعي، جاء من باب إحساسه العميق به ووعيه بالكتابة وإشكالية الوجود ومعنى الحياة، مضيفا أن هذه البداية القوية المسنودة بوعي شقي، هي ما جعل أعماله، رغم قلتها، في السبعينات محط ترحيب نقدي وتلق قرائي واسع، ترحيب لم يدفعه إلى مغامرة النشر بل كان دافعا للتريث وإنضاج التجربة وممارسة التخريق والتمزيق والبتر والمحو، من أجل قصيدة مغايرة “قصيدة تشتغل داخل منظومة من الكلمات الشاسعة جدا والمتنوعة والمترحلة من السيمائيات إلى الخرافة إلى السينوغرافيات وغيرها من جغرافيا العلوم والدين والأسطورة وهو ما يتطلب من الباحثين الشباب إخضاع معجمه للدراسة والمتابعة.
هل كنا، حقا، أمام الشاعر محمد بنطلحة يوم 25 أبريل 2025 بمعرض الكتاب؟ هل هو نفسه من كرمته وزارة الثقافة عن مسار امتد لـ 5 عقود، صادر عن وعي شعري يقوده اشتغال حي للغة وهي تستنطق أغوار الذات في تموجاتها؟
ألم يعترف هو في ديوانه “قليلا أكثر” أن اسم محمد بنطلحة اسم مستعار؟ وحتى عندما تحدث إلى الحضور الذي جاء لتكريم “مساره” أو مشاركته “مسراته” بحذف الألف .. بجرة لسان كل ما اقترفه من غواية وبكلمة واحدة قال: هل كانوا يتحدثون عني أم عن شخص آخر؟ مفاجئا الحضور، من نقاد وشعراء وأصدقاء، بأنه طيلة 50 سنة لم يحقق شيئا، فهو “لا يقف عند المنجز، منشغلا بما ” لم يُنجز” وبالأثر الذي يتركه عندما يكتب، منحازا إلى “القليل الأكثر” وإلى القلة الهائلة التي تؤسس ما تبقى بتعبير هولدرلين.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 28/04/2025