تشكل قضية أطفال الشوارع في الدار البيضاء موضوعا ذا راهنية كبيرة وصدى اجتماعيا عميقا في مدينة تشهد توسعا حضريا سريعا وتفاوتات متزايدة، حيث يجد هؤلاء الأطفال أنفسهم على هامش مجتمع يعجز عن تلبية حاجاتهم الأساسية، فيجسدون بذلك واقعا مؤلما، يكشف عن اختلالات بنيوية وإخفاقات في هياكل الحماية الاجتماعية والتعليمية.
في دراسة تم إنجازها مؤخرا، تم التوقف عند تفاصيل هذا الموضوع، مع منح الأهمية للواقع السوسيولوجي له في ضرورة فهم العوامل التي تدفع بهؤلاء الأطفال إلى العيش في الشارع، وانعكاسات هذه الوضعية على نموهم الجسدي والنفسي والاجتماعي، بالنظر إلى أن الأطفال في وضعية الشارع ليسوا مجرد ضحايا للظروف، بل هم فاعلون في واقعهم، يكافحون للحفاظ على كرامتهم وتطلعاتهم رغم البيئة العدائية المحيطة بهم. وتظهر المعطيات الحديثة واقعا مقلقًا يتمثل في أن آلاف الأطفال، غالبا من أوساط هشة، يتجولون في شوارع الدار البيضاء، معرضين لمخاطر متعددة كالعنف والاستغلال والحرمان من التعليم. هذه الأرقام، رغم دلالتها فإنها لا تحكي سوى جزء من القصة، وتؤكد الحاجة إلى مقاربة شاملة وإنسانية لفهم مسارات حياتهم الفريدة.
وتوقفت الدراسة المنجزة عند سباب انفصال الأطفال عن أسرهم الذي يدفعهم إلى الشارع، مشيرة إلى أن الأمر يتعلق بظاهرة معقدة تتفاعل فيها عوامل اقتصادية وأسرية، والتي تتوزع ما بين العوامل الاقتصادية المتمثلة في الفقر الذي يعد الدافع الرئيسي للانفصال، إذ تعجز أسر كثيرة عن تلبية الحاجات الأساسية (الغذاء، التعليم، الصحة)، مما يدفع الأطفال للبحث عن سبل عيش في الشارع، إلى جانب البطالة والعمل غير المستقر إذ يفاقم عدم استقرار الدخل التوتر الأسري ويزيد من هشاشة الأطفال، فضلا عن التفاوتات الاقتصادية، حيث تتعمق الفجوات الطبقية في الدار البيضاء، مما يزيد إقصاء الأسر الفقيرة ويُرسخ حلقة الفقر.
وينضاف إلى ما سبق عوامل أخرى التي تتوزع ما بين الاختلالات الأسرية المجسدة في العنف المنزلي والإهمال اللذان يدفعان الأطفال إلى الهروب بحثًا عن الأمان، وتفكك الروابط العائلية نظرا لأن الهجرة أو انفصال الوالدين يضعف شبكات الدعم، ويترك الأطفال دون حماية، ثم غياب الدعم التعليمي حيث يُزيد الحرمان من التعليم المدرسي من احتمالية الانزلاق إلى الشارع، لعدم وجود فرص لكسر دائرة الفقر.
وإذا كانت الظاهرة تشكّل تحديا اجتماعيا جوهريا، فإن هؤلاء الأطفال، ضحايا انفصال اجتماعي واقتصادي وأسري، يحتاجون إلى تدخل منسق لإعادة إدماجهم بشكل دائم، وهو ما يتطلب تبني استراتيجيات تجمع بين الوقاية والرعاية الفورية والدعم طويل الأمد، ومن بينها ما يتعلق بالاستراتيجيات والآليات الحالية ويتعلق الأمر بالسياسات العمومية والمبادرات الحكومية، من قبيل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي تعمل على تمويل مراكز الاستقبال، ودعم الجمعيات العاملة مع أطفال الشوارع، إلى جانب المشاريع التعليمية والصحية المتمثلة في حملات التوعية بأهمية التعليم، والتلقيح، وتوفير الرعاية الطبية لهؤلاء الأطفال، إضافة إلى التعاون مع وزارة التضامن من خلال إطلاق برامج تعزز حماية الطفولة.
بالمقابل تبرز كذلك أهمية دور المنظمات غير الحكومية والجمعيات المحلية في إنشاء دور إيواء ومراكز انتقالية توفر مأوى مؤقتا، ودعما نفسيا، وتكوينا مهنيا، إلى جانب برامج الوساطة الأسرية عبر محاولة إعادة دمج الأطفال مع أسرهم عند الإمكان وورشات تعزيز الاستقلالية من قبيل محو الأمية، والتدريب على المهن، والأنشطة الرياضية والفنية. احتضان ودعم يرى المهتمون بأنه يجب أن يشمل الدعم النفسي والقانوني عبر مرافقة نفسية من أخصائيين لمساعدة الأطفال على تجاوز الصدمات، وكذا توفير مساعدة قانونية لحماية حقوق الأطفال وإنقاذهم من البيئات الاستغلالية.
هذه الخطوات تعترضها العديد من التحديات من قبيل نقص التنسيق، إذ رأت الدراسة المنجزة بأن هناك غيابا للتعاون بين الفاعلين (الإدارات، الجمعيات، الأسر)، وتضارب الجهود الفردية، مما يُضعف الفعالية الشاملة، إلى جانب نقص الموارد فعدد مراكز الاستقبال لا يكفي لاستيعاب جميع الحالات، وضعف التمويل المخصص لبرامج الإدماج طويلة الأمد، فضلا عما يعرف بـ «الوصمة الاجتماعية»، فالنظرة السلبية لأطفال الشوارع تعيق اندماجهم في المدارس أو سوق الشغل، ثم هناك مشكل ضعف التدابير الوقائية من خلال إهمال الأسباب الهيكلية (كالفقر والبطالة والتفكك الأسري).
ودعت الدراسة إلى تعزيز سياسات الوقاية من خلال برامج دعم اقتصادي للأسر الهشة لتفادي هروب الأطفال إلى الشارع وتشجيع التعليم عبر منح دراسية ومرافقة مخصصة، إلى جانب العمل على تحسين البنية التحتية والتمويل بزيادة عدد مراكز الاستقبال مع خدمات شاملة (صحة، تعليم، تكوين مهني) وإشراك القطاع الخاص في تمويل مبادرات دعم أطفال الشوارع. كما أوصت بإنشاء نظام متابعة طويل الأمد عبر إطلاق سجل وطني لتتبع مسارات الأطفال المستفيدين وتقييم فعالية البرامج وتسهيل الاندماج المهني عبر شراكات مع الشركات وتدريبات معتمدة، دون إغفال الدور المهم للتوعية والتعبئة المجتمعية بتنظيم حملات وطنية لمحاربة الوصمة الاجتماعية وتعزيز ثقافة التضامن وتشجيع المواطنين على المشاركة في برامج الكفالة أو الإرشاد.
يعتمد إدماج أطفال الشوارع في المغرب على جهود متعددة القطاعات تجمع بين الوقاية والرعاية والدعم، ورغم التقدم المحرز بفضل مبادرات الفاعلين العامين والخاصين، يبقى تعزيز التنسيق وزيادة الموارد ومواجهة الأسباب الجذرية ضرورة ملحة، لأن الاستثمار في هؤلاء الأطفال هو استثمار في مستقبل المغاربة، لبناء مجتمع أكثر عدالةً وشمولية.