عن دار سليكي، وفي توقيت رمزي خلال فعاليات المعرض الدولي للكتاب بالعاصمة الرباط، صدرت الطبعة الثانية من كتاب «ظهر المهراز… أرض الحب والإيديولوجيا»، بعدما لقيت طبعته الأولى صدى واسعا لدى القرّاء والمهتمين وقدماء الطلبة، خصوصا أولئك الذين مرّوا من تجربة الجامعة أو عايشوا أجواءها من قريب أو بعيد. لقد جاء هذا الإصدار الثاني استجابة للطلب المتزايد على الكتاب، وتعبيرا عن التقدير الجماعي لذاكرة جامعة شكلت لعقود طويلة معقلًا للفكر والنضال، وفضاءً مفتوحا لتفاعل الذات الفردية مع رهانات الجماعة، ومختبرا حيّا لتحولات المجتمع المغربي في أبعاده السياسية والثقافية والاجتماعية.
ليست الطبعة الثانية من هذ العمل مجرّد إعادة طباعة لكتاب نفد من السوق، بل هي تأكيد على الحاجة الملحّة لحفظ هذا الرصيد الرمزي والوجداني، وللتذكير بأهمية الفضاءات الجامعية التي شكّلت وعي أجيال متلاحقة، وصنعت مسارات لرجال ونساء ساهموا لاحقًا في تشكيل نخب هذا البلد، سياسيا وفكريا وإبداعيا، إذ أن الكتاب، الذي اختار له صاحباه، عبد العزيز المسيح ونزار الفراوي، عنوانا شِعريا يتأرجح بين العاطفة والوعي، يطرح نفسه باعتباره وثيقة من قلب الذاكرة، تحفر عميقًا في علاقة الإنسان بالمكان، وتعيد ترتيب زمنٍ لم يندثر تماما، لكنه يحتاج إلى من يستدعيه بشجاعة وحنين بوصفه مكان الحوارات الكبرى والتموقعات الفكرية والسياسية.
الكتاب لا يؤرخ لظهر المهراز بوصفه مجرد موقع جامعي بفاس، بل يقدمه كأرضٍ سكنت العقل والوجدان، كمساحة أنتجت أفكارا وأحلاما وصراعات وأوهاما، عكست نبض مجتمع يتغيّر ويتجاذبه السؤال عن الهوية والمصير، إنها ذاكرة لا تستعيد فقط الوقائع، بل تعيد استحضار الحيوات التي عاشت هناك، والتجارب التي تفاعلت فيها الذوات داخل سياق عام، كان فيه المغرب يبحث عن توازن صعب بين استحقاقات الديمقراطية وإكراهات المرحلة، ليصوغ الكتاب بذلك وثيقة إنسانية شديدة الغنى، تنتمي إلى الجميع، وتدعو الجميع إلى مساءلة علاقتهم بالمكان والذاكرة والزمن، ذلك عندما يصعب الإمساك بخيوط الذاكرة حين يتعلق الأمر بفضاء مثل ظهر المهراز.
ينفتح الكتاب، على امتداد 241 صفحة، على أربعة محاور مركزية: «عتبات ظهر المهراز»، «شهادات من وحي العبور»، «نصوص برائحة المكان»، و»ظهر المهراز: وجه وقصيدة»، ويضم 33 مساهمة، تمثل فسيفساء من التجارب والأصوات، تجمع بين الأجيال، وتقطع مع النظرة الأحادية للتاريخ، إذ نقرأ في الصفحات نصوصا تمزج بين السيرة الذاتية والتأمل الفكري والحنين الشخصي، كما تتقاطع فيها شهادات فاعلين سياسيين ونقابيين وأدباء وأساتذة جامعيين وطلبة سابقين، حيث يلتقي الجميع عند قناعة واحدة: أن ظهر المهراز كانت أكثر من جامعة، كانت فضاءً لصقل الذات، ومختبرا لصناعة الوعي، ومنصة لاختبار معنى أن تكون في قلب زمن متحوّل.
وإذا كان المكان يحتل موقع القلب في هذا العمل، فإن جوهر الكتاب يتجلّى في محاولة استعادة التجربة الطلابية المغربية، بكل ما حملته من زخم نضالي، واصطفافات إيديولوجية، وسجالات فكرية، كان لها الأثر المباشر في تكوين شخصية الطالب، وفي إشعاع الجامعة كمؤسسة ذات تأثير لا يستهان به في الحياة العامة، فظهر المهراز لم تكن مجرّد قاعات للدراسة، بل كانت ساحة للمواجهة بين المشاريع، ولتكوين خطاب بديل، ولتغذية الحركة الطلابية بأدوات التحليل والمقاومة، في زمن كانت فيه الجامعة المنبر الحر شبه الوحيد للحديث باسم الشعب وهمومه، وفضاء لطالما كان مرآة للواقع المغربي وتحولاته المرتبطة بقضايا الفرد والدولة والمجتمع.
ينتقل الكتاب بين الفضاءات التي شكلت النسيج الرمزي لظهر المهراز: الساحة الكبرى، الحي الجامعي، المطعم، الساحة الحرة… وهي فضاءات لم تكن محايدة، بل كانت مشبعة بتوترات يومية، وبمواقف واختيارات، وبنقاشات فكرية تجاوزت أحيانا أسوار الجامعة إلى قلب المجتمع. ومن خلال هذه المحطات، نكتشف أن تجربة ظهر المهراز ليست فقط في انخراط الطلبة في السياسة أو النضال، بل في تمثلهم لقيم الحياة، للعشق والصداقة، للأخوة والزمالة، وهي عناصر تفيض بها النصوص والشهادات المجمعة في هذا العمل الجماعي الذي تنبعث من صفحاته حرارة الشعارات وجرأة الحوارات الفكرية التي كانت تُخاض في المدرجات أو على أرصفة الأمل.
لقد أثار صدور كتاب «ظهر المهراز… أرض الحب والإيديولوجيا»، منذ نزول طبعته الأولى تحت النور، ردود فعل قوية داخل الأوساط الجامعية والثقافية، إذ عبر العديد من الذين اقتنوه، من أساتذة ومحامين وإعلاميين ومسؤولين سابقين وحاليين، عن أن الكتاب حرّك فيهم ذاكرة شخصية، وجعلهم يعيدون النظر في مراحل من حياتهم كان لها وقع بالغ في تشكيل مساراتهم اللاحقة، كما أن البعض رأى في هذا العمل محفزا لكتابة سيرهم الذاتية، لأنه استطاع أن يفتح نافذة على ماضٍ يبدو بعيدا زمنيا، لكنه لا يزال حيّا وجدانيا بكل نصوص وحكايات الرفاق، واشتباكات التيارات، ورهانات التمرّد والانكسار والأفكار النقدية.
صدور هذا الكتاب يمثل، في العمق، دعوة مفتوحة إلى ضرورة صون ذاكرة الجامعة المغربية، وتثمين أدوارها التاريخية والوجدانية في تشكيل الوعي الجماعي، وفي إنتاج النخب وقيادة الحراك المجتمعي. فالجامعة، كما تتجلى في تجربة ظهر المهراز، لم تكن فقط فضاءً للتلقين، بل كانت مدرسة للحياة، ومنارة للتنوير، ومحضنا للتمرد الجميل، ومحركا لأسئلة التغيير، واليوم، في زمن التحولات السريعة والمراجعات العميقة، تبدو الحاجة ملحة إلى استحضار هذه القلاع الرمزية، والاشتغال الجاد على أرشفة تجاربها، باعتبار حماية الذاكرة ليست ترفا بل ضرورة وجودية لفهم الأدوار الطلائعية والسياقات التنويرية التي مرت بالوطن.
«ظهر المهراز … أرض الحب والإيديولوجيا» : عمل جماعي من قلب ذاكرة مُعتَّقة برهانات التمرّد والانكسار والأحلام

الكاتب : أحمد بيضي
بتاريخ : 30/04/2025