تحولات التمثلات الثقافية في المدرسة المغربية: الأدب والفن والفلسفة والعلوم في المناهج الدراسية والتكوين الجامعي

بقلم: ذ:سليم ياسين
تعيش المدرسة المغربية منذ عقود مخاضًا عميقًا يعكس تحولات اجتماعية وثقافية وسياسية معقدة. فقد أصبحت المؤسسة التعليمية اليوم ساحة لتجاذب تمثلات متعددة للثقافة، تتقاطع فيها الرهانات التربوية مع السياقات المجتمعية والاقتصادية، مما يطرح بإلحاح مسألة حضور البعد الثقافي في المناهج الدراسية ومسالك التكوين الجامعي. وفي قلب هذا الإشكال، تبرز الحاجة إلى تحليل موقع الأدب والفن والفلسفة والعلوم ضمن الهندسة البيداغوجية المعتمدة، بما يسمح بتقويم طبيعة التمثلات الثقافية التي تعيد المدرسة إنتاجها أو تسهم في تحولها.
إن التمثلات الثقافية لا تُختزل في مضامين معرفية جامدة، بل تنبني على تصورات رمزية ومرجعية للعالم والذات والآخر، تشكلها المؤسسات، ومن ضمنها المدرسة، عبر المناهج والكتب والطرائق. في هذا الإطار، ظلت المدرسة المغربية منذ الاستقلال تعيش تنازعًا بين مشروع حداثي يروم ترسيخ قيم العقلانية والانفتاح، ومقاربة تقليدية تميل إلى التلقين والحفظ وتكريس أنماط ثقافية محافظة. هذا التنازع يظهر بجلاء في كيفية إدماج المواد الثقافية في المنهاج، لا سيما ما يتصل بالآداب والفنون والفلسفة، مقابل المواد العلمية ذات الطابع النفعي والوظيفي.
يُسجّل في العقود الأخيرة تراجع نسبي في الاهتمام بالأدب والفنون والعلوم الإنسانية في المنظومة التربوية. فالمقررات الدراسية، خاصة في التعليم الثانوي، غالبًا ما تُقلص من الحيز المخصص لهذه المواد، أو تقدمها بطريقة تجزيئية وجافة، تفرغها من طابعها الإبداعي والتكويني. فمثلاً، تقدم نصوص الأدب في الكتب المدرسية كوسائط لغوية لا كتجارب إنسانية غنية، وغالبًا ما يُعتمد على مقاطع معزولة من سياقها، مما يضعف البعد الجمالي والنقدي فيها. أما الفنون، فقد بقيت في الهوامش، تُدرس أحيانًا كأنشطة موازية، دون أن تحظى بمكانة ضمن المقررات الرسمية أو تحظى بتقييم جدي يعكس دورها في بناء الوعي الجمالي والذوق الثقافي لدى المتعلمين.
أما الفلسفة، التي كان يُنتظر منها أن تلعب دورًا مركزيًا في ترسيخ التفكير النقدي والقدرة على المساءلة، فقد تعرضت لموجات من التضييق والمراجعة، سواء من حيث توقيت تدريسها أو من حيث طبيعة المواضيع المعالجة فيها، والتي أصبحت أكثر موجهة وأقل انفتاحًا على قضايا الراهن وأسئلته المعقدة. كما أن تمثلات المجتمع عن الفلسفة غالبًا ما تظل سلبية، باعتبارها مادة «نظرية» أو «ملغزة»، مما يقلل من إقبال التلاميذ عليها، ويُضعف من موقعها الرمزي في الفضاء المدرسي.
في المقابل، تعرف العلوم والرياضيات حضورًا قويًا في المنهاج، انطلاقًا من رهانات الدولة على «المهن المستقبلية» وربط التعليم بسوق الشغل. غير أن هذا الحضور، رغم وجاهته، يعاني بدوره من تجريد مفارق للواقع، ومن نقص في المقاربة التي تسمح بإدماج العلوم ضمن رؤية ثقافية شاملة، تتجاوز البعد التقني نحو أفق فلسفي وإنساني. فالعلوم في كثير من الأحيان تُدرس كمعطيات جاهزة لا كمجالات تساؤل وبحث وتجريب، مما يحد من أثرها التكويني ويقلل من جاذبيتها.
أما على مستوى التعليم العالي، فالمسالك الأدبية والإنسانية تعرف نوعًا من التهميش المؤسساتي والاجتماعي، إذ يُنظر إليها باعتبارها مسالك «غير مهنية»، لا تفضي إلى فرص شغل واضحة، وهو ما أدى إلى تراجع الإقبال عليها، وتآكل جاذبيتها الرمزية لدى الأسر والطلبة. في المقابل، يتم تشجيع التكوينات ذات البعد المهني والتقني، أحيانًا على حساب العمق الفكري والثقافي الضروري لبناء المواطن. هذه السياسة التكوينية تُسهم بدورها في إعادة إنتاج تمثلات سلبية حول الثقافة غير النفعية، وتُضعف من إمكانيات تَمثُّل بدائل حضارية متنوعة.
في ضوء ما سبق، فإن المدرسة المغربية بحاجة إلى مراجعة شاملة لتمثلاتها حول الثقافة، بما يضمن إعادة الاعتبار للآداب والفنون والفلسفة والعلوم الإنسانية ضمن تصور متكامل للتربية. فالثقافة ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية ومعرفية لبناء وعي نقدي، وتحصين اجتماعي ضد العنف والتطرف والتقليد الأعمى. إن تعزيز الحضور النوعي لهذه المواد في المنهاج، من خلال مقاربات تكاملية وطرق تدريس نشيطة، من شأنه أن يعيد الثقة في المدرسة كفضاء لتكوين الشخصية الحرة والمبدعة، المتشبعة بقيم الجمال والتعدد والتفكير.
إن تجديد التمثلات الثقافية داخل المدرسة المغربية لا يمر فقط عبر الإصلاحات التقنية أو مراجعة البرامج، بل يتطلب تحولًا عميقًا في فلسفة التربية ذاتها، وفي صورة الإنسان التي نريد تشكيلها. إن الأمر يتعلقفي الجوهر، باختيار حضاري يروم إعادة الاعتبار للإنسانبالفعل التربوي، وربط التعليم بثقافة الحياة، لا بثقافة الامتحان فقط. وفي هذا الأفق، تغدو المواد الثقافية ليست ملاحق تكميلية، بل رافعات أساسية لكل مشروع تربوي تنموي حقيقي.
الكاتب : بقلم: ذ:سليم ياسين - بتاريخ : 10/05/2025