منذ طفولتي الأولى في ستينيات القرن الماضي، وأنا مشدود بأوتار الشذو إلى صوت يشبه الضوء حين ينساب من شقوق الليل فوق أسطح مدينة فاس العتيقة…
لقد كان اسمه يتردد همسا على شفاه الجيران، وتراتيله العذبة تشعل في رغبة غامضة في البكاء الممزوج بالفرح.
الموسيقار عبدالوهاب الدكالي لم يكن مجرد صوت يحلق من المذياع، بل كان رفيق مراهقتي، ظلًّا يطول كلما اشتد الحنين، وصوتا يلملم شتات قلبي حين يعصف به التيه.
كنت في الثامنة أو التاسعة من عمري حين سمعت لأول مرة أغنيته «مول الخال»، منبعثة من مذياع جدي الخشبي، وقد التفت حوله الأسرة في ظهيرة شتوية رومانسية.
لم أفهم كل الكلمات، لكن شيئا ما في المقام، في الالتفاتة الصوتية، في التنهيدة الخفيفة، جعلني أصمت… كأن الزمن توقف ليركع أمام هذا الفن الرفيع الذي انبثق من حدائق فاس، المدينة التي تحفظ في أزقتها الضيقة مقامات الملحون والموسيقى الأندلسية التي لا تشيخ.
كبرت، وكبر معي طيف الموسيقار عبدالوهاب الدكالي. أو لنقل، كبرت في حضرة موسيقاه.
هو ابن مدينة فاس العريقة ، من تلك الغرف العتيقة ، من عائلة كانت تؤمن بالعلم والتقاليد، لكنه خرج عن المألوف وسار في دروب الفن بشجاعة المطرب المحارب.
تلقى تعليمه في الموسيقى، التمثيل، وحتى الرسم، وكأن الفن كان يسكن مساماته.
في الخمسينيات من القرن الماضي ، حين كانت البلاد تحت الحماية الفرنسية، كان هو يخط أولى نغماته، يعدو لاهثا وراء حلمه على خشبات المسرح مع فرقة المعمورة، تحت أعين أساتذة فرنسيين، لكن روحه كانت مغربية خالصة، معجونة بالزجل والفصحى ونكهات أزقة المدينة القديمة.
حين انتقل منها إلى الرباط، ثم إلى الدار البيضاء، بدا لي وكأنه هاجر في دواخلي أيضا.
بدأت ألاحق أخباره، أحفظ كلماته، وأقلد صوته أمام المرآة المهشمة في بيتنا، خجلا من أبي، مشدودا إلى موسيقاه كما يشد التلميذ إلى أول حب.
أذكر جيدا حين أذاع الراديو أغنيته الثانية «يا الغادي في الطوموبيل»، كنت في الشارع آنذاك، لكنها بقيت تدندن في أذني حتى الليل، فكتبتها على دفاتري كما تكتب صلاة سرية.
ثم جاءت «مرسول الحب» سنة 1972، وأحسست أنها كتبت لي، وحدي. كيف يمكن لأغنية أن تصف اشتياقا لم يكتب بعد؟ كيف استطاع هذا العملاق الشامخ أن يحول القلب إلى قارب، والحنين إلى مجداف؟ تلك الأغنية كانت، ولا تزال، صلاة عشاق، وطنا صغيرا يجمع المتباعدين في زوايا الحنين.
في القاهرة، حيث أقام لسنين طويلة، لم ينس وطنه الحبيب المغرب، بل حمله معه، زجلا ومقامات، ولهجة تفيض دفئا ودهشة.
لم يكن فنانا يطارد الأضواء، بل كان هو الضوء نفسه. موسيقاه لا تشبه أحدا، ومواضيعه تتراقص بين الحب والوجدان ووطنه الأم .
في رائعته «أنا والغربة»، بكيت منفاي الداخلي. وفي «أجي نتسالمو»، صفحت عن الذين طعنوني ذات حنين. وفي «حكاية هوى»، رأيت وجهي التائه بين قطارات العمر.
لم يكتفِ المطرب بالغناء، بل شارك في السينما، شارك بروحه التي لا تعرف المساومة. «أين تخبئون الشمس؟» كان سؤالا، لكنني كنت أعرف الجواب: يخبئونها في صوته، في ملامحه، في صمته.
وحين بدأ التكريم يطرق بابه، فرحت له كما يفرح الابن بنجاح أبيه. الجائزة الكبرى في مدينة المحمدية، ثم درع شخصية العام العربي في لندن، فجوائز من الفاتيكان وباريس، ودكتوراه فخرية، وأوسمة وطنية عديدة … كلها بدت لي اعترافا متأخرا لما عرفته أنا طفلا، حين همست لأمي أن هذا الرجل ليس مثل بقية الرجال.
واليوم، وبعد مرور أكثر من نصف قرن، ما زالت معزوفات الموسيقار عبدالوهاب الدكالي تسكنني. كلما سمعت «النظرة «، شعرت أنني أنظر لأول مرة. وكلما بثت أغنية «بيا ولا بيك» إلى الإذاعة، عادت سنواتي الطفولية تركض نحوي. حتى «العهد»، أغنيته الوطنية الرائعة ، كانت لي بمثابة وعد لا يخون.
في كل مرة أسمع مقطع «لم تبق إلا شمعة تبكي على ما ضاع مني… وتذوب في دمعي أنا…» من أغنيته العذبة «لا تتركيني»، أشعر كما لو أن الموسيقار الدكالي لا يغني فقط، بل يسرد حكاية وجدانية مشتركة بينه وبين جمهوره. هناك في صوته نغمة بكاء خفي، ووميض شمعة تتآكل ببطء على وقع الذكريات، كأنها تضيء ليل القلب وحدها. ثم تأتي الجملة المعجونة بالشغف: «كي أغني .. كي أغني»، فتفتح النافذة على إصرار الفنان على الحياة رغم كل الفقد، لأنه يغني للحب، ومن أجل الحب. في هذه اللحظة، لا يعود الدكالي مجرد فنان، بل يتحول إلى رسول للعاطفة، يؤمن بأن الغناء ليس تسلية، بل مقاومة للغياب، وانتقام جميل من الزمن.
إن هذا المقطع وحده يكفي ليؤكد أن عبد الوهاب الدكالي لم يكن فقط صوت جيل، بل بوصلة عاطفية لمن أضاعوا الطريق، ثم وجدوها في أغانيه العذبة. ولذا، وأنا أكتب هذه السطور، تختلط الذكرى بالنشيد، والدمعة بالمقام، فأدرك من جديد أنني لا أزال أحيى بحبه… كي أكتب، وكي أغني.
نصف قرن في محبة الموسيقار عبد الوهاب الدكالي

الكاتب : عبده حقي
بتاريخ : 12/05/2025