مع مطلع القرن العشرين، وبينما كانت رياح التجديد تهب على سماء الأدب العربي، بزغ نجم لبناني فريد، امتلك روحًا شرقية متأملة وعقلاً منفتحًا على آفاق الغرب. إنه «ميخائيل نعيمة»، القادم من جبال صنين الشامخة، التي شاءت له الأقدار أن يتذوق برودة روسيا لتشتعل أنامله بنيران الإبداع، تاركا بصمة لا تُمحى في تاريخ الأدب العربي الحديث.
ولد نعيمة في كنف أسرة لبنانية عريقة، لكن طموحه المعرفي قاده في شبابه الباكر إلى أرض القيصر، حيث انغمس في دراسة الأدب والثقافة الروسية. تلك الفترة القصيرة التي قضاها على ضفاف الأنهار المتجمدة كانت بمثابة نافذة فتحت له على عوالم فكرية جديدة، وأرتْه جماليات أدبية لم يألفها من قبل. هناك، في تلك البقعة البعيدة، نظم نعيمة سلسلة أشعاره، ولكن بلغة القوم، قصيدة «замерзшая река» بالعربية «النهر المتجمد»، التي سرعان ما ترجمها إلى لغة الضاد، لتكون بمثابة الجسر الأول الذي عبرت عليه روحه من صقيع الشمال إلى دفء الشرق.
لم يكن تأثر نعيمة بالأدب الروسي مجرد إعجاب عابر، بل كان نهلاً عميقًا من كنوز عمالقة الرواية والشعر الروسيين. أسماء مثل بوشكين، ليرمونتوف، تورغينيف، وتولستوي، وغيرهم من نجوم الأدب الروسي الساطع، أضاءت له دروب الكتابة وكشفت له عن جوانب إنسانية وفنية لم تكن تخطر بباله. لقد رأى في عمق النفس الروسية وصدق التعبير الأدبي نماذج يحتذى بها، وألهمته لتقديم أدب عربي بروح روسية تلامس أعماق الوجود.
وعلى الرغم من أن نعيمة لم يستقر طويلًا في روسيا، إلا أن تلك التجربة تركت بصمات واضحة على مسيرته الإبداعية ليعود إلى لبنان محملا بشغف المعرفة وبرؤية جديدة للأدب، و ليصبح أحد قادة النهضة الثقافية والفكرية في العالم العربي. قدم لنا دواوين شعرية رقيقة كـ «همس الجفون»، وأرسى أسسًا جديدة للنقد الأدبي بكتابه الرائد «Сито» بالعربية «الغربال»، كما الف رواية فريدة بملامح عصرية هي «مذكرات الأرقش».
لم يغب صوت نعيمة عن المحافل الثقافية العربية والدولية. ففي عام 1956، شارك في حلقة نقاش في اتحاد الكتاب حول الأدبين ( الأوكراني والعربي )، مؤكدا على أهمية التبادل الثقافي ومد جسور التواصل بين الشعوب. وقد دعا حينها إلى تعزيز هذا التبادل من خلال تبادل الطلاب والباحثين.
اليوم، وبعد مرور عقود على رحيل ميخائيل نعيمة الذي يعتبره الروس أيقونة الأدب العربي الروسي، و الذي استطاع أن يجد له مكانة ضمن الأدباء الروس لا يزال اسمه يتردد في الأوساط الأدبية الروسية، حيث تترجم أعماله وتُدرس في الجامعات، كشاهد على ذلك النهر اللبناني الذي تجمد لفترة وجيزة في أرض روسيا، ثم فاض إبداعًا غزيرًا، ليروي ظمأ أجيال من القراء في العالم العربي، حاملاً معه عبق الثقافة الروسية كلحن خفي في سمفونية كلماتها ليكون بذلك ميخائيل نعيمة جسرًا ثقافيًا فريدًا، ربط بين دفء الشرق وبرد الشمال، ليثمر أدبًا إنسانيًا عالميًا.
(صحفي متدرب)