هكذا شارك قادة الاتحاد الاشتراكي في تحرير المغرب وبناء مؤسساته

نوفل بوصفي *

في تاريخ كل أمة، هنالك محطات فاصلة تساهم في تشكيل هويتها ورؤيتها المستقبلية. ومن بين هذه المحطات الهامة في تاريخ المغرب، يبقى دور حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من بين الأدوار التي لا يمكن تجاوزها. إذ لم يكن هذا الحزب مجرد تجمع سياسي، بل كان صوتًا من أصوات النضال ضد الاستعمار، وكذا ركيزة أساسية في مرحلة ما بعد الاستقلال، محققًا للأحلام والطموحات الشعبية في بناء دولة قانونية وديمقراطية تتسع للجميع.
عندما نقلب صفحات تاريخ المغرب الحديث، نجد أن حزب الاتحاد الاشتراكي، منذ نشأته في عام 1975 بعد انشقاقه عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كان دائمًا في قلب القضايا الوطنية الكبرى. لقد كانت إسهامات قادة هذا الحزب في تحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي محورية، إذ شاركوا في الكفاح والمقاومة وهو ما يعكس امتدادهم النضالي العريق. وقد تحول هذا المسار من المقاومة إلى قوة سياسية تبنّت مشروع بناء دولة على أسس ديمقراطية وقيم اجتماعية عادلة. لذلك، تظلّ ذكرى هذا الحزب حية في وجدان الشعب المغربي، ليس فقط باعتباره حزباً سياسياً، بل كمؤسسة ذات تاريخ نضالي طويل ساهم بشكل كبير في بناء مؤسسات الدولة بعد الاستقلال.”

الحماية الفرنسية ونشأة الحركة الوطنية

أدى توقيع معاهدة الحماية في 30 مارس 1912 إلى فرض نظام استعماري جديد على المغرب، قسّم البلاد بين مناطق النفوذ الفرنسي والإسباني، في حين وُضع شمال البلاد تحت السيطرة الإسبانية، والوسط تحت الوصاية الفرنسية، أما مدينة طنجة فخضعت لنظام دولي خاص. هذا التقسيم لم يكن عشوائيًا، بل جاء نتيجة صراع طويل بين القوى الاستعمارية، انتهى بإخضاع المغرب لنفوذ خارجي، وضع حدًا لسيادته الفعلية.
رغم محاولات الإدارة الاستعمارية تقديم الحماية على أنها إصلاح إداري وتحديث للمؤسسات، إلا أن الواقع أثبت أنها شكل من أشكال الاستعمار المقنّع. فقد تم تقليص صلاحيات السلطان إلى أدوار رمزية، وتفكيك البنيات التقليدية للسلطة، وتعزيز سلطة المقيم العام الفرنسي، الذي أصبح الحاكم الفعلي للبلاد. في هذا السياق، بدأ وعي وطني يتبلور بشكل تدريجي، أولاً عبر رفض شعبي عفوي للوجود الأجنبي، ثم عبر تنظيم مقاومة في عدد من المناطق كجبال الريف، الأطلس، وسوس.لكن مع نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات، ظهر جيل جديد من الوطنيين، اختار طريقًا مغايرًا للمقاومة، قوامه العمل السياسي والفكري والتنظيمي. والعمل الحزبي.
وهكذا تأسست في 1934 “كتلة العمل الوطني” كأول تعبير منظم عن الحركة الوطنية المغربية، بقيادة شخصيات بارزة عبد الرحيم بوعبيد من الشباب الذين تأثروا بالحركة الوطنية المغربية ورفضوا الاستعمار الفرنسي . وكان له دور كبير في الحركة التي كانت تطالب باستقلال المغرب. وعُرف بنضاله المستمر ضد الاحتلال، وكان أحد الأسماء البارزة بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
وأيضا من بينهم الراحل علال الفاسي، ومحمد بلحسن الوزاني، وعبد الله إبراهيم، وعبد الرحيم بوعبيد، وهي الأسماء التي ستلعب لاحقًا دورًا كبيرًا في صياغة المشروع الوطني لما بعد الاستعمار.

من المقاومة إلى السياسة: الاتحاد الوطني وامتداد النضال بعد الاستقلال

حين نال المغرب استقلاله في منتصف خمسينيات القرن العشرين، ظن الكثيرون أن مرحلة النضال قد انتهت، وأن بناء الدولة الحديثة سيكون مسارًا طبيعيًا بعد زوال الاستعمار. غير أن الواقع السياسي سرعان ما كشف عن تحديات معقدة، أبرزها غموض طبيعة النظام السياسي، وغياب دستور ديمقراطي يعكس طموحات الشعب. في هذا السياق، لم يتوقف نضال القادة الوطنيين الذين ساهموا في التحرير، بل انتقل إلى ساحة جديدة: ساحة الصراع من أجل بناء دولة القانون والمؤسسات.
بعد مرور ثلاث سنوات من الاستقلال، تم تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي انشق عن حزب الاستقلال نتيجة خلافات داخلية وتباينات في توجهات الإصلاح، ما أدى إلى انشقاق تاريخي سنة 1959، تمخض عنه ميلاد هذا الحزب، بقيادة مجموعة من رموز الحركة الوطنية، من بينهم الشهيد المهدي بن بركة، وكذلك الراحل عبد الله إبراهيم، عبد الرحيم بوعبيد، ومحمد البصري، الذين تركوا بصماتهم في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية. أما محمد اليازغي، فقد ظل صامداً في الساحة السياسية، مستمراً في تقديم إسهاماته إلى اليوم.
لم يكن هذا التأسيس مجرد خطوة حزبية، بل كان امتدادًا لنضال وطني طويل، وتجسيدًا لإرادة سياسية تسعى لتأسيس نظام ديمقراطي حقيقي، يستند إلى دستور شعبي، وبرلمان فعلي، وعدالة اجتماعية.

الدستور وبناء الدولة الحديثة: موقف الاتحاد الاشتراكي من المسار الدستوري والمؤسساتي

رغم أن تأسيس حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تم سنة 1975، فإن جذور مواقف قادته من المسار الدستوري والمؤسساتي تعود إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث شارك العديد منهم، وهم من خيرة أبناء الحركة الوطنية ومناضلي حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في النقاشات الكبرى حول مستقبل الدولة المغربية الحديثة.
وقد تميزت تلك المرحلة بطرح أسئلة جوهرية حول شكل النظام السياسي المغربي، وسبل التوفيق بين الاستمرارية التاريخية ، والتحديث المؤسساتي الذي تطمح إليه مختلف القوى الوطنية.
ففي سنة 1962، صدر أول دستور للمملكة، في ظرفية دقيقة من تاريخ البلاد، شهدت نقاشًا وطنيًا واسعًا حول طبيعة المؤسسات المقبلة. ورغم بعض التحفظات التي أبدتها آنذاك بعض الأطراف، ومن بينها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فإن ذلك لم يمنعها من التعبير عن مواقفها ضمن إطار من المسؤولية الوطنية والاحترام العميق للثوابت. فقد كان مطلبها الأساس يتمثل في توسيع دائرة المشاركة السياسية، وتعزيز دور المؤسسات المنتخبة، بما يضمن التوازن بين السلط ويخدم مصلحة الوطن والمواطنين.
ومنذ تأسيسه، واصل حزب الاتحاد الاشتراكي هذا النهج، مساهماً، من موقعه السياسي، في ترسيخ قيم الديمقراطية والتعددية، في ظل تشبثه الثابت بالوحدة الوطنية والمؤسسة الملكية، باعتبارها ركيزة أساسية لاستقرار المغرب وتقدمه. وقد تُوج هذا المسار النضالي بدخوله تجربة التناوب التوافقي سنة 1998، التي شكلت محطة بارزة في تاريخ الانتقال الديمقراطي، حيث تولّى قيادة الحكومة في إطار توافق وطني، عبّر عن نضج الخطاب السياسي للحزب، واستعداده للمساهمة الفعلية في تدبير الشأن العام بكل مسؤولية ووطنية.

الاتحاد الاشتراكي وتجربة التناوب التوافقي سنة 1998

مثّلت سنة 1998 محطة مفصلية في تاريخ الحياة السياسية المغربية، حيث تولّى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية قيادة الحكومة، في إطارالتناوب التوافقي، بعد تصدره نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 1997. وقد جاء هذا التحول في سياق انفتاح سياسي هام، عبّر عن إرادة ملكية سامية لإعطاء نفس جديد للمسار الديمقراطي، كما جسد ثمرة نضال طويل للحزب من أجل الإصلاحات السياسية والمؤسساتية.
وقد كُلّف الراحل عبد الرحمن اليوسفي، الكاتب الأول للحزب حينها، يتولى رئاسة الحكومة في ظل توافق وطني شامل، قائم على الثقة والاحترام المتبادل بين المؤسسة الملكية والقوى السياسية. وقد اعتُبرت هذه التجربة خطوة متقدمة نحو تعزيز مناخ الاستقرار السياسي، وترسيخ منهج الحوار والتشارك في تدبير الشأن العام.
عكست تشكيلة حكومة التناوب التوافقي لسنة 1998 الحضور القوي والوازن لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي أسندت إليه رئاسة الحكومة برئاسة الراحل عبد الرحمن اليوسفي، الكاتب الأول للحزب حينها، والذي كُلّف من طرف جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، طيب الله ثراه، بتشكيل الحكومة في خطوة تاريخية عبّرت عن انفتاح سياسي كبير وثقة ملكية سامية في نضج التجربة الحزبية المغربية.
وقد شغل عدد من قيادات الحزب مناصب وزارية استراتيجية، مما مكّنهم من المساهمة المباشرة في رسم السياسات العمومية وإطلاق إصلاحات هيكلية في عدد من القطاعات الحيوية. فتولى فتح الله ولعلو حقيبة الاقتصاد والمالية، حيث أدار ملفات دقيقة تتعلق بالتوازنات الكبرى والخيارات الاقتصادية للبلاد. أما محمد اليازغي، فشغل منصب الوزير المكلف بإعداد التراب الوطني والبيئة والتهيئة العمرانية والسكنى، واضطلع بأدوار مهمة في مجالات التنمية المستدامة والتخطيط الحضري.
كما تولى لحبيب المالكي وزارة الفلاحة والتنمية القروية والصيد البحري، حيث عمل على تعزيز الإنتاج الفلاحي والاهتمام بالعالم القروي، في حين أُسندت وزارة التربية الوطنية لإسماعيل العلوي، الذي باشر ملفات إصلاحية تهدف إلى تطوير المنظومة التعليمية.
وقد شكّل هذا الفريق الحكومي الاتحادي واجهة جديدة للعمل السياسي المؤسساتي، في ظل رؤية تستند إلى الحكامة والإصلاح التدريجي، وتنسجم مع الثوابت الوطنية، وفي مقدمتها المؤسسة الملكية، التي كانت دائمًا رافعة للاستقرار وبوصلة للتوازن السياسي والمؤسساتي.

الاتحاد الاشتراكي: ذاكرة نضال ورهان المستقبل

لعب حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية دورًا محوريًا في النضال من أجل إرساء دولة الحق والقانون، وكان من أبرز المدافعين عن الحريات العامة وحقوق الإنسان خلال فترات عصيبة من تاريخ المغرب السياسي. برز في صفوفه عدد من القادة المميزين الذين تركوا بصمات قوية في الحياة السياسية والفكرية، من بينهم الشهيد عمر بنجلون رحمه الله ، الذي دفع حياته ثمناً لمواقفه ومبادئه، والراحل عبد الرحمان اليوسفي، الذي جمع بين النضال الحقوقي والسياسي، وتوّج مسيرته بتجربة حكومية رائدة في إطار ما عُرف بالتناوب التوافقي. كما ساهم محمد اليازغي، وقيادات أخرى من داخل الحزب، في تعزيز مسار الإنصاف والمصالحة، والدفاع عن قيم العدالة الاجتماعية والمساواة.
لقد كان الاتحاد الاشتراكي مدرسة وطنية في النضال السلمي، وجسرًا حقيقيًا نحو المصالحة بين الدولة والمجتمع، عبر تبنيه لخطاب عقلاني ومسؤول، واستعداده الدائم للمساهمة في بناء مغرب المؤسسات والكرامة والحرية.
رغم كل التحديات والتحولات التي عرفها المغرب منذ الاستقلال، ظل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وفياً لذاكرته النضالية، حاملاً إرث المقاومة السياسية، ومدافعاً عن قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
فقد كان هذا الحزب أكثر من مجرد تنظيم سياسي؛ كان بمثابة مدرسة وطنية كوّنت أجيالاً من المناضلين، ورافعت عن قضايا الشعب في البرلمان، في الشارع، وفي السجون، وفي المفاوضات السياسية الكبرى.
اليوم، وعلى الرغم من التغيرات السياسية والاقتصادية، لا يزال الحزب يمثل رأس المال الرمزي الذي يحمله الشعب في ذاكرته النضالية، ويسعى لاستعادته من خلال تجديد رؤيته السياسية، والعودة إلى المنهج الديمقراطي الذي كان عليه منذ البداية.
إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية هو جزء لا يتجزأ من تاريخ المغرب المعاصر، ورمز للوفاء للثوابت الوطنية، وسيظل عاملًا رئيسيًا في رسم معالم المستقبل السياسي والاجتماعي للمغرب، على أساس العدالة والمساواة، والحرية التي ناضل من أجلها أبطال هذه الحركة الوطنية.

الانتخابات التشريعية المقبلة: فرصتنا لاختيار المستقبل

إن الانتخابات التشريعية المقبلة تعتبر محطة هامة في تاريخ المغرب السياسي، حيث تتيح لكل مواطن فرصة حقيقية للتأثير في اختيار الحكومة المقبلة. التصويت ليس مجرد حق، بل هو مسؤولية وطنية تمليها علينا القيم الديمقراطية التي نسعى جميعاً إلى تعزيزها في بلدنا. في هذه المرحلة الحاسمة، يجب على كل فرد أن يختار الحزب الذي يعكس تطلعاته ويؤمن بالحلول الجادة لمشاكل البلاد.
الانتخابات تمثل فرصتنا لإعطاء الصوت لمن يستحقه، وأحد الأحزاب التي تتقدم في هذا السياق هو حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي يقوده السيد إدريس لشكر. يعتبر الحزب من بين الأحزاب التي تقدم رؤية واضحة للنهوض بالمجتمع المغربي، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي. السيد إدريس لشكر، بصفته الكاتب الأول للحزب، يعمل على تعزيز دور الشباب والمشاركة السياسية، وهو يركز على الإصلاحات التي تساهم في بناء دولة قوية ومتطورة.
فلنغتنم هذه الفرصة، ولنصوت جميعاً بكل مسؤولية ووعي، لأن الصوت الذي نمنحه هو الذي سيحدد شكل الحكومة القادمة. إن المشاركة الفعالة في الانتخابات هي الوسيلة الوحيدة لضمان مستقبل أفضل وأمن لنا ولأجيالنا القادمة.

* طالب باحث في القانون العام والسياسة

 

الكاتب : نوفل بوصفي * - بتاريخ : 14/05/2025