الشاعر إبراهيم قازو : أو حين يصير الهايكو نافذةً تطلّ على جوهر الوجود

في حضرة الشعر، يلوذ بعضهم بالصخب كي يُسمَع، فيما يختار آخرون الصمت ليُفهموا. وإبراهيم قازو، ذلك الزميل الذي جاورني هذا العام في مؤسسة تعليمية بمراكش، من طينة هؤلاء: شاعر يمضي في الحياة كما يمضي في قصيدته، بخفة الظل وعمق التأمل، كأنه يخطو على أطراف اللغة، متواطئًا مع المعنى.
لم أكن قد قرأت له شيئًا من قبل، وإن كنت قد سمعت، مرارًا، أن من بيننا رجلًا يكتب الشذرات كما تُقطف النجوم في ليالٍ صافية. حتى جاء اليوم الذي احتضنت فيه مؤسستنا أمسية شعرية احتفاءً باليوم العالمي للشعر، وكان قازو أبرز من ارتقى المنصة. جلست أُصغي، أولًا بدافع الفضول، ثم بإعجاب مبهور. كلماته لم تكن تمرُّ عبر الأذن فقط، بل كانت تُلقى في موضعٍ ما من القلب، يعرف تمامًا كيف يُنصت حين تهمس القصيدة.
كان شعره شبيهًا بموسيقى لا تفهم لغتها، لكنها تُربكك من فرط جمالها. ومنذ تلك اللحظة، وجدتني أبحث عن أثره في الحروف، أفتش عن كتفه في النص، وأستردّ من ظلال اللغة ما لم تقله الأمسية.
إبراهيم قازو، ابن مراكش العتيقة، المدينة التي لا تُنجب إلا من اختار أن يسكن الشعر لا أن يسكنه. بدأ تجربته في عوالم القصة القصيرة، قبل أن ينحاز إلى القصيدة الشذرية، مستضيئًا بأسماء ذات أثر وجودي عميق: سيوران، درويش، روني شار، المجاطي… وغيرهم من الذين مشوا في الشعر حفاة، يلتقطون المعنى من قاع المعاناة.
لكن التحول المفصلي في مساره كان حين وقع على الهايكو، هذا الفن الياباني الضارب في الصمت والتجلي، القائم على قبض اللحظة كما تُقبض نسمة، والنافر من البلاغة المصفوفة نحو جوهر الإحساس الخام. لم يكن قازو يتقن اليابانية، لكنه نهل من ترجماته العالمية، فتشرّب الهايكو لا باعتباره قالبًا شعريًا، بل باعتباره موقفًا من العالم، وانحناءة روحٍ أمام مشهدٍ عابرٍ قد يختزل الوجود كله.
نصوصه لا تُقرأ كتمارين على الاختزال، بل كنبضات داخلية لشاعر يرى، ويشعر، ويكتب كأنما يتنفس. لنتأمل قوله:

وحدها
حين تشرئب فوق الجدار
زهرة الرمان
تفتح نافذة عزلتي

أو هذا النص المكثف بالحياة والموت معًا:

على رصيف الوقت
أنتظر قصيدة
تقرّبني مسافة موت

إنه شاعر يقف في الهوّة بين الضوء وظله، يرصد ما لا تلتقطه العين، ويكتبه بلغة تشبه إيماءةَ راهبٍ في معبدِ الصمت.
وإلى جانب تجربته الإبداعية، انشغل قازو بالترجمة، لا كحرفة بل كفنٍّ يعبر عبره الشاعر إلى ضفاف الآخرين. ترجم عن اليابانية والفرنسية نصوصًا عميقة لشعراء من الأرجنتين، الكونغو، وبلاد الشمس المشرقة، دون أن يقع في شرك الحرفية الباردة. كانت ترجماته تنبض بذات المزاج الشاعري: لا يترجم الكلمات، بل يترجم رائحة النص،
وموسيقى دواخله، ويعيد خلقه بلغة عربية شفيفة تُشبهه.
وإني إذ أكتب هذه الشهادة، لا أقدّم مجرد تعريف بشاعر، بل أضع بين يديكم عربون صداقة، واعترافًا بجمالٍ تلمّسته عن قرب. فبعض الشعراء يضيئون من حيث لا يتعمدون، ويقيمون فينا بهدوء لا يفتعل الأثر، لكنه يُخلّفه.
وإبراهيم قازو واحد من أولئك: شاعر لا يصرخ، لكنه يُصغي لك بصمته، ثم يهمس لك بجملة قد تغيّر فيك شيئًا لا يعود كما كان.


الكاتب : إبراهيم القنبوعي

  

بتاريخ : 14/05/2025