كم هو قاسٍ فراق صديق حميم، تجمعني به لحظات كثيرة، ملؤها الفرح والحياة.
يا صديقي محمد، أنا الآن حزين، ليس لأنك غادرتنا، بل لأنك جزء من ذاكرة مشتركة، أو بالأحرى كنت أحد صُنّاع تفاصيلها. نسجنا خيوطها سويًا، أو إن شِئت، تقاسمنا بلاغة الليل. كنت وحدك من يُجيد جرأة التعبير عن أعطابنا، بكثير من السخرية والألم.
منذ لقائنا الأول بالرباط، بعد مغادرتك للوظيفة الإدارية التي لا تليق بأفقك الفني ورؤيتك للعالم، امتدت الصداقات إلى حيث لم نعد معها قادرين على محو لحظات تلو اللحظات، في بيتي بشارع لبنان، أو في بيتك بحيّ المحيط، أو في مسكننا المشترك عند الراحل محمد اعريوس.
هناك كان المقام، والبحر غير بعيد عن أسئلتنا المُقلقة. كنت كمن يبحث عن شبيهه، لكن فرادتك هي ما يجعل تلك اللحظات استثنائية.
يا محمد، هي الحياة، كما فهمناها أو على الأقل نسعى إلى فهمها، قاسية رغم قدرتك على الكلام حولها وفيها. كلام أشبه براوٍ يرمي بقصته نحو تخوم مليئة بالمفاجآت الصادمة أحيانًا.
قصتك التي تحكي عنها بنشوة، لا أحد يجرؤ على مقاطعتك، وأنت تواصل الحديث عن وجوه وأمكنة لها النسيان.
ظلّت اللقاءات متواصلة، ومعها ترسّخت العِشرة، وتكاثر الأصدقاء، وبات عشقنا للحياة مقرونًا بقيم الحرية والمساواة والكرامة.
بل إنك في مجمل تلك اللقاءات كنت حريصًا على قول ما نعجز عن قوله، بحكم الصداقة والمجاملة.
ما يجمعني بك يا محمد، ليس في معنى المشترك، إنما المبنى والمعمار لك.
أنت من دافع عن وطن فيه متّسع للجميع، حتى وإن شتمك أولياء هذا الزمن المغربي في لحظات ألمك.
هؤلاء الذين فضّلوا أسلوب العنف والترهيب، هم إلى مزبلة التاريخ، يفرحون بقدرهم المتوحش.
يا صديقي، في غمرة وداعك، مُحبوك كُثُر، وجنازتك كانت ردًّا على من تطاول على انتمائك لعائلتك وأصدقائك وإبداعك وحياتك.
بل كانت المفاجأة السارة: تعزية ملكية سامية، وتغطية إعلامية وازنة.
لو أردت الحديث عنك، وعن شغفنا الذي لا يستقيم إلا بسخريتك التي اعتدنا على طقسها، سيطول الكلام.
ربما تأتي مناسبة أخرى تجمعنا في غيابك، لاستحضار تجربتك: تشخيصًا، وكتابة، وإنسانًا.
لا أجد سوى هذه الكلمات التي أدعو لك من خلالها بالرحمة.
بالصداقة التي حفرنا جزءًا منها، أُقسم أنني لم أندم على تلك اللحظات الثنائية والجماعية، التي ستظل عالقة في الذاكرة والقلب.
لك كل المحبة التي تعرف صدقيتها، ولك مني وعدٌ أن أُقاسمك كل لحظة فرح عابرة، لأنك الحاضر دومًا في مشتلنا، الذي اعتنينا به في مختلف الفضاءات التي تعرفها جيدًا.
وكما قلتَ يومًا في رحيل صديقنا محمد اعريوس، دمت يا صديقي وفيًا لمساحة فكرك المتنور، ولحداثة مواقفك وسلوكك، ولجرأة أفكارك، ولإبداعك، ولشجاعتك في الحياة، ونُبلك الإنساني الجميل…
أنا فرِح الآن، بك ومن أجلك، لأنني أنهيت بعضًا من بكائي المختبئ، ومسحتُ عيوني التي لا تتحمّل هذا الخبر، الذي مبتدأه أنت…
صديقك
إبراهيم إغلان