في الحاجة إلى خطاب سياسي يحترم ذكاء المغاربة

محمد السوعلي (*)

 

كثُرت في الآونة الأخيرة المقالات والتحليلات التي لا تخطئ العين ميولها المفضوحة، حيث ترتوي من أطروحات الأغلبية الحكومية وتُسوّق روايتها وكأنها الحقيقة الوحيدة، وكأن الواقع الملموس لا وجود له إلا عبر أعين الناطقين باسم السلطة التنفيذية. أقلام اعتادت، للأسف، ألا ترى في الساحة السياسية سوى معارضة تائهة، ومؤسسات بلا فعالية، وتكتفي بتصوير المشهد بمنظار يبرّئ الحكومة من كل مسؤولية، ويُحمّل غيرها وزر كل الاختلالات البنيوية.
لكن، أليس من الأجدر بهذه الأقلام أن تسائل اختلالات تدبير الشأن العام، بدلًا من شيطنة كل مبادرة نقدية أو مسعى للمساءلة الدستورية؟ أليس أولى أن تُنصت لصوت المجتمع الحقيقي، المتألم من تفشي البطالة، الغلاء المتصاعد، تآكل الطبقة الوسطى، المديونية، وانسداد أفق الثقة في الفعل العمومي؟
ما يغيب عن هذه التحليلات، عن وعي أو جهل، هو الاعتراف الصريح بما يعرفه الخاص والعام: اختناق اجتماعي، تراجع في الثقة، تفاوتات مجالية صارخة، وتفكك في منظومة الخدمات العمومية من صحة وتعليم وسكن. حتى بعض الأصوات داخل صفوف الأغلبية، رغم تحفظها، لا تخفي قلقها مما آلت إليه الأوضاع. فكيف يُعقل أن يُصر البعض على تسويق «نجاح حكومي» في زمن تتراجع فيه القدرة الشرائية للمواطن، وتنهار فيه القيم التضامنية للدولة الاجتماعية الموعودة؟
وفي هذا السياق، لا يمكن التغاضي عن بعض الأصوات الإعلامية القليلة، التي اعتادت النظر إلى المغرب وتطوره الديمقراطي بعيون سوداء، وكأن هذا الوطن لم يمنحهم شيئًا. أصوات محدودة، معروفة للجميع، لا يهمها فيما تنشره سوى إثارة التشويش على مسار بلد أعطاها الكثير، لكنها تنكرت له بمواقف عدائية مبطّنة وقراءات سطحية أو مأجورة.
وما يُثلج الصدر، في المقابل، هو أن أغلبية الإعلاميين المغاربة، بمختلف مشاربهم، يثبتون يومًا بعد آخر مستوى عاليًا من المهنية والغيرة الوطنية، في تناولهم لمواضيع السياسة والاقتصاد والمجتمع. هؤلاء يقدّمون تحليلاتهم من منظور وطني، لا مزايداتي، ينتقدون بجرأة الأغلبية والمعارضة معًا، ويقترحون حلولًا وجيهة، نابعة من همّ إصلاحي صادق، لا من رغبة في إثارة الضجيج.
والملفت للانتباه هو أن الحكومة تبدي حساسية مفرطة تجاه هؤلاء الإعلاميين، كما تبدي توجسا حيال أية مبادرة قد تصدر عن فرق المعارضة في البرلمان لممارسة حقها في تقويم تنزيل بعض البرامج والمشاريع.
وفي تجارب ديمقراطية مشابهة، كما في إسبانيا أو فرنسا، لا يُنظر إلى إعمال آليات الرقابة البرلمانية كتهديد، بل كجزء من الحياة السياسية الطبيعية. فالديمقراطية لا تعني فقط التداول على السلطة، بل تعني مراقبتها باستمرار ومساءلتها باسم الشعب، وهو ما تقوم به المعارضة الاتحادية بمجلس النواب ومجلس المستشارين.
إن الاهتمام بالشأن العام في المغرب لا يمكن أن يُختزل في تمجيد انتقائي أو انحياز أيديولوجي أعمى، بل هو مسؤولية أخلاقية وسياسية تفرض احترام الآليات الدستورية والمؤسساتية التي شُيّدت عليها التجربة المغربية، وفي مقدمتها ملتمس الرقابة.
والأهم أن يتم التعامل مع هذه الآليات ليس كاستثناء نادر، بل كجزء من الوظيفة الديمقراطية العادية التي يُفترض أن تُمارَس كلما وُجد خلل أو تراجُع في الأداء العمومي. لأن الدستور، بكل وضوح، لا يُلزم أحدًا بالتطبيل أو الصمت، بل يُوجب المحاسبة والمساءلة ويمنح المواطنين أدوات لفهم السياسات العمومية واختبار جودتها.
ثم إن ما يهم المغاربة، في نهاية المطاف، ليس من تقدّم بملتمس الرقابة، لأن الجميع يعلم منذ 2024 من يتصدر هذا الخيار، ويعلم ما يطمح إليه. كما أن النقاش الدائر حول مواقف مكونات المعارضة، وطبيعة التنسيق بينها، لا يشغل المواطن، لأنه يدرك تركيبتها، ويعرف اختلاف مرجعياتها وأيديولوجياتها، ويميز بين أهدافها المُعلنة وتلك التي تُدار في الكواليس. لكن ما يستفز مشاعر المواطن هو أن تتعامل الحكومة مع مثل هذه المبادرات باستعلاء من جهة، وبسن سياسة الهروب إلى الأمام من جهة ثانية، مما يوحي بأنها لا تريد إطلاع الرأي العام على العديد من الحقائق.
وهذا الأمر، بدوره، سيكون في المحك الحقيقي أمام صناديق الاقتراع، حيث ستكون الكلمة الأخيرة للناخب المغربي الذي سيحكم على أداء فرق الأغلبية الحكومية وعلى كل مكون من مكونات المعارضة على ضوء مواقفه ومصداقيته والتزامه بقضايا الناس.
وحين يدافع حزب القوات الشعبية عن تفعيل ملتمس الرقابة، فهو لا يدافع فقط عن حق دستوري، بل عن حق المواطن في المعرفة، في التتبع، وفي تكوين رأيه على أسس واضحة. الاتحاد الاشتراكي يدافع عن صوت العامل الذي لم يعد يتحمل كلفة المعيشة، وعن الأم التي صارت عاجزة عن توفير الدواء، وعن الشاب الذي يشعر أن بلاده أغلقت في وجهه أبواب الأمل… فملتمس الرقابة يعد صرخة دستورية باسم هؤلاء الضعفاء والمهمشين. ومن موقعنا كحزب سياسي تقدمي واشتراكي، ما يهمنا بالأساس هو الإنصات لهموم المواطنين، والتجاوب مع حاجياتهم وتطلعاتهم.
هذه القناعة ليست مجرد شعار، بل التزام عملي يتطلب منا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن نواصل نضالنا المبدئي دفاعًا عن العدالة الاجتماعية، عن الكرامة، وعن مغرب المؤسسات.
ونحن نقترب من محطة الانتخابات التشريعية لسنة 2026، ندرك تمامًا أن التحديات المقبلة تفرض علينا تقوية الجبهة الداخلية للحزب، وتنشيط تنظيماتنا الموازية، وإعادة بناء خطاب سياسي قريب من الناس، واضح في أهدافه، صادق في تعبيراته.
ولأننا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لا نمارس السياسة من أجل المواقع، بل من أجل الوطن، فإننا نحمل معنا ذاكرة نضال مؤلم، وتجربة إصلاحية عميقة، لا يمكن أن تتخلى عن واجب المواجهة عندما يصمت الآخرون.
إن حزبنا يظل متشبثًا بأهمية ملتمس الرقابة كآلية دستورية راقية، وواعٍ تمامًا بضرورة تعزيز التنسيق الجاد والمسؤول مع مكونات المعارضة البرلمانية، رغم اختلاف المرجعيات والبرامج. فالمصلحة العليا للوطن، ومطلب التغيير الديمقراطي، يفرضان علينا اليوم تجاوز الحسابات الضيقة، والانخراط في معركة سياسية عنوانها القضاء على التغول الحكومي.
ولذلك، فإننا ننتظر من المجلس الوطني للحزب أن يقول كلمته في المشهد السياسي الراهن، بعد قراءة متأنية لما سيصدر عن المكتب السياسي من بيانات ومواقف، ترسم معالم المرحلة، وتحدد بوصلة الاشتغال السياسي للمرحلة المقبلة.
كما ننتظر من المجلس الوطني أن يثير التساؤلات التي ينبغي طرحها في الآونة الراهنة، من قبيل: هل نحن أمام ممارسة سياسية تؤمن بالدستور كأداة لتنظيم السلطة، أم أمام سلطة تريد دستورًا يُطوى كلما أزعجها صوت مخالف؟وهل نخشى من النقاش، أم من نتائجه؟
ولأننا نؤمن أن الأوطان لا تُبنى بالصمت، بل بالكلمة الحرة، والموقف الشجاع، فإننا ندعو كل من يؤمن بالديمقراطية الحقيقية إلى الوقوف الى جانب القوات الشعبية. فالتغيير لا تصنعه النخب وحدها، بل يصنعه المواطن الواعي، حين يقرر أن يقول كلمته، بوضوح، في الانتخابات، في الشارع، وفي كل فضاء يسمح له بأن يكون فاعلاً لا متفرجًا.
(*) عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والأخلاقيات للحزب

الكاتب : محمد السوعلي (*) - بتاريخ : 17/05/2025