مسار العولمة تحديات جديدة وآفاق مستقبلية

الحبيب المالكي
تهدف العولمة كاختيار استراتيجي إلى تعزيز الانفتاح وتوسيع شبكات الترابط والاندماج بين الاقتصادات والثقافات والشعوب في مختلف أنحاء العالم، وهي تُعد اليوم واحدة من أبرز القوى الدافعة لتحوّل الاقتصاد والمجتمع. وبفضل التقدم التكنولوجي وتطور البنى التحتية للنقل وشبكات الاتصال، ساهمت العولمة في إعادة تشكيل المجتمعات وفتح آفاق جديدة للتنمية ، لكنها في الوقت ذاته ولّدت تحديات كبيرة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وحتى الثقافي. وإذا كان من المسلم به اليوم أن العولمة قد أحرزت تقدماً لا يمكن إنكاره في مناطق ومجالات متعددة، فإن استشراف المستقبل لا يمكن أن يتم بمعزل عن تحليل عميق للنجاحات والإخفاقات التي واكبت هذا المسار منذ بداية انفتاح الاقتصادات وتحرير التجارة
نجاحات العولمة
من أبرز النجاحات التي حققتها العولمة هو النمو الكبير في حجم التجارة الدولية. إذ سمحت الأسواق العالمية للعديد من الدول بالتخصص في إنتاج السلع والخدمات التي تملك فيها امتيازا تنافسيا، مما عزز الكفاءة والابتكار وسرع من وتيرة النمو الاقتصادي. وتُعد دول مثل الصين والهند وفيتنام مثالاً واضحاً على ذلك، حيث شهدت هذه الدول نهضة صناعية كبرى مكنت الملايين من السكان من الخروج من دائرة الفقر وذلك من خلال اندماجها في الاقتصاد العالمي
كما سهّلت العولمة انتشار التكنولوجيا والمعرفة، حيث أصبحت الأفكار والابتكارات تنتقل بسرعة غير مسبوقة، مما ساهم في رفع الإنتاجية ومستوى المعيشة في مناطق عدة من العالم. كما أن الولوج إلى الأسواق العالمية يتيح حاليا فرصا وافرة للمستهلكين للحصول على مجموعة أوسع من المنتجات بأسعار أقل
وعلى صعيد آخر، عززت العولمة التبادل الثقافي وساهمت في تعزيز التفاهم المتبادل بين الشعوب والمجتمعات. فقد أصبح الأفراد، بفضل العولمة، أكثر تعرضاً لأنماط حياة مختلفة وثقافات متنوعة وتقاليد متعددة، ما يُسهم في تعزيز روح التسامح داخل المجتمعات وتوسيع الأفق الثقافي. وفي خضم هذا المسار، شهد العالم تقوية التعاون الدولي في مجالات مثل العلوم والتعليم وحماية البيئة، كما يتضح من جهود المجتمع الدولي في مواجهة التغير المناخي والأزمات الصحية العالمية
الانتقادات الموجهة للعولمة
ورغم هذه الإيجابيات التي أتاحها مسار العولمة كمحرك للإنتاجية ومحفز للنمو الاقتصادي الشامل، إلا أن هذا المسار لم يكن دائماً وعلى مختلف الأصعدة متوجاً بكل النتائج المرجوة. ذلك أن تفاقم الفوارق والفجوات التنموية في الاقتصاد الدولي وعدم المساواة على المستوى العالمي تعد من أبرز إخفاقات هذا المسار . ففي الوقت الذي استفادت فيه بعض الدول بشكل كبير من فرص الانفتاح التجاري، عانت أخرى من آثار سلبية بسبب ضعف استعدادها للمنافسة الدولية. ولا تزال الفجوة بين الشمال والجنوب قائمة، كما عانت الطبقات الوسطى والشعبية في عدد من الدول من فقدان فرص العمل وتراجع الدخل بفعل انتقال الصناعات إلى دول تتميز بوفرة العمالة ومحدودية تكاليف الإنتاج
من جانب آخر، ساهمت العولمة في إحداث بعض الاختلالات في التوازن الاجتماعي و الثقافات المحلية للعديد من بلدان العالم الثالث، حيث باتت الشركات متعددة الجنسيات تهيمن على الأسواق، وتهدد أنماط الحياة التقليدية وتُضعف الاقتصادات المحلية بفعل توحيد المنتجات الثقافية. ويُضاف إلى ذلك التدهور البيئي، نتيجة للزيادة المفرطة لوتيرة الإنتاج ، مما أدى إلى ارتفاع انبعاثات الكربون واستنزاف الموارد الطبيعية
كما جعلت العولمة العالم أكثر عرضة للصدمات الخارجية وتقلبات المحيط الدولي. وقد أظهرت جائحة كوفيد19 هشاشة سلاسل التوريد العالمية، تماماً كما بيّنت الأزمات المالية كيف يمكن أن تنتقل المشكلات الاقتصادية من منطقة إلى أخرى بسرعة كبيرة
آفاق مستقبلية
ومن المرجح أن يتأثر مستقبل العولمة بعدة اتجاهات رئيسية. هناك أولاً توجه متزايد نحو إقامة عولمة أكثر استدامة وشمولاً. فقد أصبحت الحكومات والفاعلين الاقتصاديين والمجتمعات المدنية تدرك بشكل متزايد ضرورة الموازنة بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وحماية البيئة. وتشمل هذه التوجهات الانتقال إلى التكنولوجيا الخضراء، ودعم التجارة العادلة، وتعزيز المسؤولية الاجتماعية
من جانب آخر، يتبين من خلال المستجدات التكنولوجية أن الثورة الرقمية من شأنها أن تغير من طبيعة العولمة نفسها وتطوراتها المستقبلية، حيث أصبح للتجارة الإلكترونية والعمل عن بُعد والخدمات الرقمية دور متنامٍ في التبادلات العابرة للحدود، وهي أقل اعتماداً على السلع المادية وأكثر تمحوراً حول البيانات والمعلومات. وهذا قد يفتح المجال أمام المقاولات الصغيرة والمجتمعات المهمشة للاندماج بشكل أكبر في الاقتصاد العالمي
ومع ذلك، تظل التوترات الجيوسياسية وتصاعد النزعة الحمائية من بين التحديات الرئيسية في عالم اليوم. فقد أصبح النظام العالمي أكثر تشتتاً، مع إعطاء الدول الأولوية لمصالحها الوطنية على حساب التعاون الدولي، وهو ما نشهده حالياً بوضوح من خلال السياسات المتبعة من أهم التكتلات الاقتصادية الكبرى في العالم. وستُحدد الطريقة التي سيتعامل بها الاقتصاد الدولي مع هذه الديناميات ما إذا كانت العولمة ستتطور نحو نظام أكثر توازناً ومرونة، أم أنها ستتراجع لصالح عالم أكثر انقساماً وميلاً للحمائية
لقد ساهمت العولمة، دون شك، في تحقيق إنجازات بارزة تمثلت في إخراج الملايين من سكان العالم من دوامة الفقر، ونشر المعرفة، وتعزيز التبادل الثقافي. لكنها في المقابل فاقمت من التفاوتات، وأضرت بالبيئة، وكشفت عن هشاشة النظم الاقتصادية العالمية. و من أهم التحديات المطروحة اليوم هو إعادة التفكير في العولمة بما يجعلها أكثر استجابة لحاجات الإنسان والبيئة. فالعولمة العادلة، المستدامة، والشاملة، يمكن أن تمهّد الطريق نحو ازدهار مشترك ومجتمع دولي أكثر تضامناً وعدلاً
الكاتب : الحبيب المالكي - بتاريخ : 17/05/2025