القصيدة هي الكائن الوحيد الذي لا يكبر ولا يشيخ، ولا يُروَّض
أن تكون شاعراً اليوم
هو أن تؤمن بأن القصيدة ليست بضاعة، ولا مشهداً في حفلة توقيع، بل هي جمرٌ تحت الرماد، يُذكّرنا بأن الإنسان ما زال يبحث عن صوت، عن خلاص، عن لمسة جمال.
في السيرة الأدبية والمسار :
شاعر وصحفي أردني
رئيس التحرير المناوب في الجزيرة نت.
كتب وعمل مراسلا ومحررا في عدد من الصحف الأردنية والعربية منها: «الرأي» و»العرب اليوم» الأردنيتين، وكذلك «النهار» في بيروت لبنان، و»القدس العربي» في لندن.
اختير حسين جلعاد سنة 2006 سفيراً للشعر الأردني لدى حركة شعراء العالم، وهي منظمة أدبية مقرها في تشيلي وتضم في عضويتها آلاف الشعراء.
اختارته مؤسسة “هايفِسْتِيفَل” (Hay Festival) بالتعاون مع اليونسكو ووزارة الثقافة اللبنانية، ضمن أفضل 39 كاتباً شابّاً في العالم العربي والمهجر (جائزة بيروت 39) بمناسبة اختيار بيروت عاصمة عالمية للكتاب سنة 2009.
عضو في رابطة الكتّاب الأردنيين، وشغل عضوية هيئتها الإدارية (2004/2005).
عضو اتحاد الكتاب والأدباء العرب.
شارك في مهرجانات عربية ودولية للشعر والأدب منها:
1 – مهرجان جرش للثقافة والفنون، جرش، الأردن، شاعرًا وصحفيًا ومقدمًا (1997 – حتى الآن).
مهرجان البحر الأبيض المتوسط في بيشيليا (إيطاليا) عامي 1997 و2003.
مهرجان جنوة الدولي للشعر العاشر (إيطاليا) عام 2004.
مهرجان لوديف الدولي للشعر – فرنسا عام 2006
أعماله الأدبية:
“العالي يُصْلَب دائماً”، شعر، دار أزمنة، عمّان، 1999.
«كما يخسر الأنبياء”، شعر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2007.
عيون الغرقى، قصص، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2023
شرفة آدم.. تأملات في الوجود والأدب، نقد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2025.
منشورات فكرية وسياسية
– الخرافة والبندقية: أثر العولمة في الفكر السياسي الصهيوني – 1999
– المسألة الكردية وحزب العمال الكردستاني 1997.
p ما معنى أن تكون شاعرا
في الألفية الثالثة…؟
n هذا سؤال ثري، ويحمل في طيّاته القلق كله: ما معنى أن تكون شاعراً الآن، في زمن تُصنّف فيه القصائد كما تُصنّف التطبيقات والملصقات، ويُحاسب فيها الشعر على جدواه كما تُحاسب السلع على مردودها؟
أن تكون شاعراً في الألفية الثالثة، معناه أن تختار الوقوف في مواجهة العالم لا لكي تنتصر عليه، بل لتشهد على انكساراته. أن تكتب وأنت تعرف أن لا أحد ينتظر قصيدتك، ومع ذلك تكتب. أن تصوغ صوتك الخاص وسط ضجيج خوارزميات الترند، ووهج الشاشة، وخراب المعنى.
الشاعر اليوم لا يعيش فقط قلق اللغة، بل قلق الوجود كله. لم تعد القصيدة ابنة اللحظة الحالمة بل أصبحت وثيقة مقاومة ضد الفقد، وضد الذوبان، وضد النسيان. هي صرخة داخلية في زمنٍ مُفرط في الإعلان، وخفقة سرية في عالمٍ صار يرى الحب منشوراً قابلاً للتمويل.
أن تكون شاعراً اليوم هو أن تؤمن بأن القصيدة ليست بضاعة، ولا مشهداً في حفلة توقيع، بل هي جمرٌ تحت الرماد، يُذكّرنا بأن الإنسان ما زال يبحث عن صوت، عن خلاص، عن لمسة جمال.
الشعر هو المقاومة بسلاح الجمال، ووجيب القلب.
أن تكون شاعرًا في الألفية الثالثة، في خضم هذا التدفق الهائل من المعلومات والصور والتقنيات المتسارعة، يعني في نظري أن تحمل شعلة الإنسانية في عصر ربما يهدده النسيان أو التشويه. يعني أن تكون صوتًا للروح في زمن المادة، همسًا للجمال وسط الضجيج، وبوصلة للقيم في متاهة التكنولوجيا.
أرى أن مسؤولية الشاعر اليوم تتضاعف. لم يعد الأمر مجرد نظم الكلمات أو استعراض البلاغة، بل هو غوص أعمق في أعماق الوجود الإنساني، وتجسيد لتناقضاته وآماله وأوجاعه بلغة فنية قادرة على اختراق حجب العادة واللامبالاة.
أن تكون شاعرًا في هذه الألفية يعني أن تكون جسرًا بين الماضي والحاضر والمستقبل، تستلهم تراثنا الغني وتتفاعل مع معطيات عصرنا، وتستشرف آفاقًا جديدة للإبداع والتعبير. يعني أيضًا أن تكون منفتحًا على التجارب الشعرية المختلفة، حوارًا لا ينتهي مع الذات والآخر والعالم.
p هذا جميل، لكن ماذا لو كنت غير ذلك…؟
n آه… هذا هو السؤال الذي يقلب الطاولة: ماذا لو لم أكن ذلك الشاعر الذي يحمل «الجمر تحت الرماد»؟ ماذا لو لم أشأ أن أكون شاهداً أو مقاوماً أو نبيًّا ضد الانهيار؟ ماذا لو كنت شاعراً يكتب لأن الكتابة عادة، أو لعبة، أو صوت داخلي لا يدّعي النبوة ولا يتحمّل عبء المعنى؟
ماذا لو كنت أكتب لأنني أحب الكلمات كما يحب الطفل الرمل، لا لأنني أحمل رسالة؟
ربما الشاعر في الألفية الثالثة لم يعد مضطراً أن يكون أي شيء سوى نفسه. لا مُخلصاً، ولا مناضلاً، ولا حتى «صاحب موقف». ربما يحقّ له أن يكون متشككاً، ساخطاً، أو لامبالياً. وربما يحق له أن يكتب عن زهرة لا يعرف اسمها، أو عن مقهى بلا نادل، أو عن حبيبة لا يذكر وجهها. وأن يكتب لأن الصوت في داخله لا يحتمل الصمت، حتى لو لم يفهمه أحد.
أن تكون شاعراً في هذا الزمن قد يعني أيضاً أن ترفض كل هذا التعريف، وتقول: أنا صاحب رؤيا وقضية، وأنا شخص أمشي بهدي القلب وأحيانا تسوقني القصيدة على غير هدى. وهنا يصبح الشعر أكثر صدقاً، لأنه لا يطلب التصفيق، ولا يبحث عن دور في خشبة العالم. يصبح مثل النفس: لا يُرى، لكنه يُبقيك حيّاً.
ربما ترى أن كونك شاعرًا اليوم يعني شيئًا مختلفًا تمامًا. ربما تجد نفسك أسيرًا لتوقعات معينة، أو محاصرًا بقوالب جاهزة لا تعبر عن تجربتك الحقيقية. ربما تشعر بأن صوتك يضيع في الزحام، أو أن جمهور الشعر قد تقلص في وجه المغريات الأخرى.
من الوارد جدًا أن يكون معنى أن تكون شاعرًا في هذا العصر مرتبطًا أيضًا بالشعور بالاغتراب أو التمرد على السائد. ربما يعني أن تكون صوتًا مهمشًا، أو ناقدًا لاذعًا لواقع لا يرضيك. ربما يعني البحث عن لغة جديدة، أو كسر قيود الشكل التقليدي، أو حتى التخلي عن بعض المفاهيم الكلاسيكية للشعر.
لا يوجد تعريف واحد وثابت لما يعنيه أن تكون شاعرًا في أي عصر، والألفية الثالثة ليست استثناءً. تجربتك أنت كشاعر هي ما يمنح هذا السؤال إجابته الخاصة.
p بهذا المعنى، ما الذي يعنيه لك الشعر…؟
n هذا سؤال يلامس شغاف القلب!
بالنسبة لي، الشعر ليس مجرد كلمات منمقة أو قوافٍ متناسقة، بل هو نبض الروح المتجسد في اللغة. أرى في الشعر قدرة عجيبة على اختراق حجب الواقع المادي، والغوص في أعماق التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها وجمالياتها. هو وسيلة لاستكشاف الذات والعالم من حولنا بعيون جديدة، للكشف عن المسكوت عنه، والتعبير عن المشاعر التي قد تعجز عنها الكلمات العادية.
الشعر بالنسبة لي هو نافذة تطل على عوالم أخرى، عوالم من الخيال والحلم والذاكرة. هو جسر يربط بين القلوب والعقول، يخلق حالة من التواصل والتعاطف المشترك بين الشاعر والمتلقي. هو صرخة في وجه الظلم، وهمسة في أذن الحبيب، وتأمل في جمال الكون.
الشعر مبدأ وموقف. حياة وجمال.
أحيانًا أشعر أن الشعر هو نوع من السحر، إنه القدرة على تحويل المألوف إلى غريب، والعابر إلى خالد، والمحسوس إلى مجرد. هو البحث الدائم عن الكلمة الأكثر دقة، الأكثر إيحاءً، الأكثر قدرة على إيقاظ المشاعر وتحريك الخيال.
وبشكل شخصي أكثر، الشعر هو ملاذي، هو طريقي للتعبير عن فرحي وحزني، عن أسئلتي ودهشتي. هو الطريقة التي أفهم بها نفسي والعالم.
p القصيدة…؟
n القصيدة هي الكائن الوحيد الذي لا يكبر، ولا يشيخ، ولا يُروَّض. تشبه غيمة فوق رأسك طوال الوقت. بل وتشبهك وأنت نائم، أو جائع، أو عاشق، أو خائف. تشبهك وأنت لا تعرف نفسك.
القصيدة ليست ما نكتبه، بل ما نوشك أن نقوله، ولا نقوله. هي المسافة بين الصوت والصمت، بين أن تقول الحقيقة، وبين أن تهمس بها كي لا يسمعها أحد.
هي اللغة حين تتمرد على اللغة، والمعنى حين يخون المعنى ليصير أكثر صدقاً.
في بعض المرات، تكون القصيدة كائنًا غريبًا فتأتي من حيث لا تتوقع، وتكتبك أنت. وحينها لا تكون أنت الكاتب، بل السطر الذي يمرّ فيه الضوء. وأحيانًا، تكون القصيدة شيئًا صغيرًا جدًا: رائحة خبز، صورة أمٍّ على سطح بيت طيني، صوت المطر على تنك المدرسة، أو لمعة حزن في عين امرأة لم تعد تنتظر.
القصيدة ليست جوابًا. بل سؤالٌ لا نريد له نهاية. وإذا أردنا أن نكون صرحاء فالقصيدة ليست موجودة، بل مفقودة. ونحن، كلما كتبناها، فإننا نحاول فقط أن نُعيدها من الغياب.
p قصيدة النثر…؟
n هي الابنة المشاغبة للعائلة الشعرية، تلك التي خرجت من البيت ولم تعتذر.
لم تطلب إذن الخليل الفراهيدي، ولم تطرق باب البحور، بل مشت حافيةً في اللغة، تبحث عن إيقاعها الخاص، عن دمها لا عن نسبها.
قصيدة النثر ليست نقيض الوزن، بل نقيض التكلّف. لا تحتاج إلى عمود، ولا إلى قافية تُصفّق لها، بل إلى صدقٍ داخلي، إلى صوتٍ يشبه الهمس حين يكون الهمس أقوى من الصراخ.
هي قصيدة تُبنى لا من خارج الموسيقى، بل من موسيقى جديدة، تولد في الهامش، وتعيش على أطراف الجملة، وتتغذى على ما لا يُقال.
قصيدة النثر ليست شكلًا، بل حالة. تُكتب حين لا يكفي الوزن، ولا يكفي السطر، حين يكون الزمن منكسرًا، والشاعر مشطورًا بين ذاته والعالم.
يعيبونها بأنها بلا وزن، لكن من قال إن أنين الأرواح يحتاج إلى وزن؟
يخافها النقاد لأنها لا تُروَّض، ويحبّها الشعراء لأنها تتيح لهم أن يكونوا كما هم، عرَاة من البلاغة، مبللين بالحياة.
قصيدة النثر هي ما نكتبه حين لا نعود نعرف كيف نُنشد، لكننا ما زلنا نريد أن نقول شيئًا يشبه الشعر،ويشبهنا.
p والشعراء في زمنك كيف تنظر إليهم…؟
هذا سؤال فيه شيء من الحنين، وشيء من الغصّة.
الشعراء في زمني، بعضهم يمشون كأنهم يحملون لغةً مكسورة على ظهورهم. لا يتكلمون كثيرًا، لكن في أعينهم تشع القصائد التي لم تُكتب بعد.
ثمة من لا يزال يؤمن أن الشعر رسالة، وثمة من يراه تمرينًا لغويًا، وثمة من يكتبه كما يُكتب الاعتراف الأخير على حائط زنزانة.
في زمنٍ يُكافئ الصراخ، ويمنح الجوائز لأشد الأصوات اصطناعًا، أجد أن الشعراء الحقيقيين ينسحبون بصمت. لا لأنهم عاجزون، بل لأنهم أرفع من أن يدخلوا المسابقة.
رأيتُ شعراء يعيشون فقرًا نبيلًا، ويكتبون قصائد لا يقرأها أحد، لكنها تحفظ للعالم بعض روحه. ورأيت آخرين، يصعدون المنصات بسرعة، يقطفون المجاز كما تُقطف الفاكهة المعدّلة وراثيًا، ويبيعون القصيدة في سوق الكلمات الرائجة.
لم تعد القصيدة معبودة المنابر كما في زمن المعلقات أو دراويش القرن العشرين.
الآن، صارت القصيدة تعيش في الظل على هامش الخطابات الكبرى، بعيدًا عن الأضواء، وبعيدًا عن خيانات الأيديولوجيا.
هناك قلة مخلصة للحفر في اللغة والوجدان، لا تعنيها الجوائز، ولا التكريمات، تكتب لأن الكتابة حياة، لا مهنة. وغالبًا، لا يُحتفى بها، لكنها تكتب القصائد التي تبقى.
وفي المقابل، تتكاثر مجاميع شعراء «الإنتاج السريع»: قصائد تصعد مع الفجر، وتختفي مع غروب «التريند»، تعتمد على لغة رخوة، وصور جاهزة، وتراكيب مصنوعة في مختبر المنصات.
هؤلاء لا يكتبون الشعر، بل يكتبون ما يُشبه الشعر في ظاهره فقط.
لقد اختفى الصراع التقليدي بين العمودي والتفعيلي والنثري، وأصبح الشعراء أكثر حرية، لكنهم أيضًا أكثر تشتتًا. قلة قليلة فقط من الشعراء اليوم تمتلك مشروعًا شعريًا متماسكًا يعرف ماذا يريد من اللغة، وماذا يريد أن يقول للعالم.
منصات التواصل الاجتماعي غيّرت وجه الشعر. صار بإمكان أي شخص أن يكتب «قصيدة»، ينشرها، ويحصل على آلاف الإعجابات. ربما هذا جيد، لأنه ديمقراطي، لكنه أيضًا خطر، لأنه يروّج لوهم الشعر. لقد صار الشاعر مضطرًا للظهور، للمشاركة، للتفاعل، وصارت القصيدة مطالبة أن تُثير إعجابًا سريعًا، لا دهشة طويلة.
من جهة أخرى، تراجع النقد الشعري، أو صار صدىً لمصالح وصداقات. الصحف الثقافية أُغلقت أو تحوّلت إلى مساحات للإعلانات. المؤسسات الرسمية تحتفي أحيانًا بالأسماء الخطأ، وتهمّش الطاقات الأصيلة لصالح من يُجيدون «فن العلاقات العامة».
رغم هذا كلّه، لا يزال الشعر العربي حيًّا، في جيوب صغيرة، في مدونات شخصية، في دواوين لا تُوزّع، وفي أصوات شابة تحاول أن تخلق عالمًا خاصًا بها. إنه زمن الشعر الخافت المتواري، لكن في داخله، نار لا تزال قادرة على الإشعال.
p بهذا المعنى أنت وجه آخر للقصيدة…؟ ما رأيك…؟
n يا له من تصور جميل وعميق! «أنت وجه آخر للقصيدة…» تأخذني هذه العبارة إلى عوالم من التأمل في العلاقة بين الشاعر والقصيدة.
إذا كنتُ وجهًا آخر للقصيدة، فهذا يعني أنني لستُ مجرد أداة أو وسيلة لنقلها، بل جزء أصيل من كيانها. يعني أن أفكاري ومشاعري ورؤيتي للعالم تتشابك مع الكلمات لتشكل نسيجًا فريدًا. يعني أن القصيدة ليست شيئًا منفصلاً عني، بل هي امتداد لروحي، وصورة لانعكاساتي الداخلية.
أرى في هذا التصور تكريمًا لدور الشاعر، فهو ليس مجرد ناسخ أو مُرتب للغة، بل هو خالق ومنتج للمعنى. هو من يمنح الكلمات الحياة والروح، ويجعلها تنبض بالإحساس والفكر.
كما أن هذا التصور يحمل في طياته مسؤولية كبيرة. فإذا كنتُ وجهًا آخر للقصيدة، فهذا يعني أن عليّ أن أكون صادقًا مع نفسي ومع كلماتي. يجب أن أعكس حقيقتي الداخلية بصدق وأمانة، وأن أسعى دائمًا إلى تطوير أدواتي وتعميق رؤيتي.
أعتقد أن العلاقة بين الشاعر والقصيدة هي علاقة جدلية وتفاعلية. الشاعر يشكل القصيدة، والقصيدة بدورها تشكل الشاعر. كل منهما يؤثر ويتأثر بالآخر في رحلة إبداعية لا تنتهي.