تحت إشراف مؤسّسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للتربية والتكوين، احتضن الرواق الفني للمركز الثقافي إكليل بطنجة يوم الجمعة الماضي23 ماي، المعرض الفردي للفنان التشكيلي والناقد الجمالي الحيسن إبراهيم تحت عنوان « للصحراء أثر … « الذي سيمتد إلى غاية 5 يونيو 2025.
بمناسبة هذا المعرض، صدر كاتالوغ من القطع المتوسط (44 صفحة)، يضمّ سيرة فنية وصور الأعمال الصباغية، مع حوار جماعي متنوّع حول السياق الموضوعاتي والخصائص التقنية والإبداعية التي تَسِمُ هذه التجربة الإبداعية المنفردة، أجرته معه نخبة وازنة ومتميّزة من الباحثين الجماليين ونقاد الفن من داخل المغرب وخارجه: طلال معلا (سوريا)، علي النجار (العراق)، محمد بن حمودة، سامي بن عامر، خليل قويعة وفاتح بن عامر (تونس)، مصطفى عيسى، أمل نصر ومحمد مهدي حميدة (مصر)، فخرية اليحيائية (سلطنة عمان)، عبد الرحمن السليمان (السعودية)، محمد العامري (الأردن)، ومن المغرب: عبد الله الشيخ، شفيق الزكَاري، نور الدين فاتحي، بنيونس عميروش، عزيز أزغاي، ادريس كثير، حسن لغدش والسعيد كرماس، إلى جانب نصّين باللغة الفرنسية للناقد الفرنسي دانييل كوتورييه والفنان والكاتب حسن المقداد.
بالمناسبة نظمت مائدة مستديرة حول موضوع «تجربة الأثر في الفن التشكيلي» سيرها بحس شعري بليغ الإعلامي و الشاعر سعيد كوبريت ، وتميزت بمشاركة نقاد ومبدعين متميّزين : ادريس كثير، أحمد لطف الله، عبد الكريم الأزهر، بنيونس عميروش ، حسن لغدش، شفيق الزكاري، يوسف سعدون ، السعيد كرماس و ابراهيم مشطاط . في هذا الإطار ،أيضا، تم عرض مشروع كتاب «حرّاس الأثر- تجارب صباغية عربية» من تقديم الباحث الجمالي عبد الله الشيخ.
وقد جاءت في هذا الصدد، ورقة مداخلة الفنان والناقد شفيق الزكاري تحت عنوان : « عزيف البحث عن الاستمراية» وجاءت كما يلي:
«غالبا ما يأخذ مفهوم الأثر صفة غير مرئية، لكونه متحولا في الزمان والمكان، ولا يخضع بطبيعته لشرط الإثبات إلا بعد إقامته كرد فعل ملموس تخلف عن ظاهرة معينة كانت سببها الطبيعة أو الإنسان.
وهذا ما حصل في تجربة الفنان والناقد ابراهيم الحيسن في هذه المغامرة، باعتبارها مرتبطة بعد عكسي استطاع فيها الفنان القبض على دواليبها من خلال عملية ملموسة محددة حتى لا تنفلت منه متعة الملاحظة التي حاول ابراهيم الحيسن أن يضبط إيقاعاتها في سياق الحركة عبر صوت الريح وهديرها في الصحراء، وتماوج الكثبان الرملية ليتحول ما هو مسموع لما هو مرئي.
أما من الناحية المادية وهذا هو بيت القصيد في هذه المغامرة، هو الاشتغال على الرموز والعلامات من خلال ما أنتجته يد الصانع التقليدي المتمرس المنتمي لمنطقته وبيئته، حتى يسجل الفنان صدق مشاعره على المستويين الحسي والملموس معا، بطابع يخضع لمواصفات جنس محدد وهو التشكيل بمعالمه المتداولة.
فالترحال كان دائما من بين مكونات الحياة البدوية وخاصة الرحل منهم، لكن ما كان يرافقهم في رحلاتهم ليست هي الخطى وأثر قوام الجمال التي سرعان ما تختفي وتندثر بسبب عوالم التعرية، بل هو هدير الرياح وما تملأ به آذانهم من صفير وهلوسة، أو ما يسمى بالعزيف، أي ذلك الصوت المتردد بين اليقين والخيال، زيادة على انعكاس الضوء وسرابه فيصبح بركة مائية متحركة ومتنقلة مع انتقال القافلة، فيتوهم من ليست له دراية بهده الظاهرة بوجود الماء.
إن فكرة العزيف حاضرة منذ زمن بعيد، حيث ارتبطت في فترات متقطعة، بمفهوم السحر والشعوذة بمضمونهما اللامادي، فكان التقاط هذه الخاصية من بين هواجس الفنان الحيسن كفاعل فني يلغي كل هذه التكهنات في قالب تشكيلي خاضع للعقلانية أكثر منها لما هي تخمينات أو تصورات مفتوحة على اللامعقول، وبهذا يكون الفنان الحيسن قد استحضر طقوس الأثر بالقوة والفعل، تأكيدا على أصالة إنتاجات المنطقة بكل معالمها الثقافية والحضارية.
وهذا ما توصل إليه الكاتب والناقد الفني مبارك حسني في تحليله لتجربة الحيسن، فاعتبر أن «الأثر الذي يبرزه الفنان الحيسن ليس صامتاً بل يعج بالمعاني، فهو متحدث ومحسوس، مما يميزه عما هو ثابت».، بمعنى آخر أن تجربة الحيسن في نهايتها تبقى صاخبة وتريد أن تفصح عما هو فيها مبهم وملغز، ففي هذا النص اعتمدت عدم الحديث عن ما قيل في أعمال الحيسن، لأنني كنت أجد في بعض الأحيان إطنابا نوعيا في سردها، خاصة عندما يتعلق الأمر بحوافر وإيقاعات خطوات الإبل أو نوعية الصبغات المنعكسة على الرداء واللباس التقليدي بألوانها واختلافاتها أو غيرها من المظاهر المرئية البادية للعيان، بل الجميل في هذه التجربة هو الإنصات لخباياها الصامتة والمنطوية على الأسرار التي تحبل بها الصحراء، حيث يصبح المرئي لامرئيا، والساكن هديرا.
تجدر الإشارة في ختام هذه الورقة الافتراضية لرؤى حالمة، بأن الحيسن ابراهيم استطاع أن يصل لسدرة المنتهى، بصوفية جعلت عمله بداية لطرح الأسئلة الضرورية بمقتضى أسلوب أنتروبولوجي يسائل الحياة والوجود بكل معاناته في مواجهة الطبيعة القاسية، بتنقلاته وتحركاته، بحثا عن استمراية مؤقتة.
إذن، فالأثر في عمل الفنان الحيسن هو الذي يكمن في بعض جزئياته، وهي تلك العناصرالدفينة التي لا نعير لها انتباهنا بالمفهوم النقدي لتخضيب الحواس كما قال أندري جيد، ولذلك فإن تجربة الفنان الحيسن مرتبطة بذاته قبل أن ترتبط بتصوره، فهو ناسك يحفر في الكلمة بقدر ما يحفر في الصورة، بنفس من ورائه حجاب.».