مخيمات بوعي وطني تنتمي لزمنها: التحول الضروري

محمد قمار

لا يكفي أن نحزم حقائب الأطفال نحو الشاطئ أو الغابة لنزعم أننا نساهم في تربيتهم. ولا يكفي أن نغني النشيد الوطني عند شروق الشمس لنقول إننا نغرس فيهم حب الوطن. المسألة أعمق من ذلك بكثير. إننا في حاجة إلى ثورة مفاهيمية تعيد تعريف التخييم بوصفه أداة وطنية لصناعة الإنسان، لا مجرد فسحة صيفية لتصريف الطاقات.
في زمن تتغير فيه العوالم الرقمية أسرع مما تتغير المناهج، وفي ظل منظومة تعليمية ترهقها التحديات، تبرز المخيمات الصيفية كمساحات بديلة واعدة قادرة على بث الروح في جسد التربية. غير أن هذه الإمكانية لا تتحقق ما لم نُخرج التخييم من التصورات التقليدية، ونطوره ليواكب تحولات الطفولة وانتظاراتها.
المدرسة المغربية اليوم تسعى بجهد لتواكب التطورات، لكنها تجد نفسها أحيانًا محاصرة بإكراهات متعددة. وهنا يفتح فضاءالتخييم ذراعه، لا كبديل للمدرسة، بل كفضاء حر لتكملة أدوارها التربوية والاجتماعية، والمساهمة في بناء الانتماء من الداخل.
وقد راكمت تجربة التخييم بالمغرب رصيدًا هامًا، لا يمكن إنكاره، سواء على مستوى إشاعة القيم الجماعية أو تنمية المهارات الناعمة لدى الناشئة. كما أن العديد من الجمعيات والمؤطرين عملوا جاهدين على تطوير البرامج، والبحث عن صيغ مبتكرة تُخرج المخيم من الرتابة نحو أفق الإبداع.
لكن السؤال الذي يظل مطروحًا هو: إلى أي حد نستثمر فعليًا في جعل المخيمات آلية مواطَنة حقيقية؟ هل نمنح الأطفال من خلالها فرصة الفهم والمشاركة والمبادرة؟ وهل نملك الجرأة الكافية لتطوير فلسفة التخييم من منطق التنشيط إلى منطق التأثير الإيجابي؟
إن الوعي الوطني لا يُغرس بالترديد، بل بالمعايشة. أن يحب الطفل وطنه لا يعني أن يهتف باسمه، بل أن يشعر بأنه معنيٌّ به، مسؤول عنه، قادر على تغييره. وهذا ما يجب أن تمنحه إياه الخيمة الذكية، لا تلك التي تستهلك الوقت بين الألعاب والمسرحيات السطحية، بل التي تحوّل كل لحظة إلى تجربة تربوية نبيلة.
في هذا السياق، يمكن تطوير ورشات تحاكي مؤسسات الدولة، كأن يتحول الأطفال إلى فاعلين في محاكاة البرلمان أو الجماعات المحلية، ليتدربوا على التفكير الجماعي واتخاذ القرار. كما يمكن إرساء ثقافة الحوار والتقويم الذاتي داخل المخيمات، مما يمنح الطفل أدوات المواطنة الحقة.
الترفيه في ذاته ليس مشكلًا، بل رافعة ضرورية. المشكل حين ينفصل عن المعنى. حين يتحول إلى هروب من الواقع بدل أن يكون تدريبًا على تغييره. يمكن للرسم أن يصبح وسيلة تفكير، والموسيقى أداة تعبير، والمسرح مساحة للبوح الجمعي. كل نشاط ترفيهي يمكنه أن يتحول إلى تربية إذا حمل رسالة، وكان وسيلة لا غاية.
ولكي يتحقق هذا التحول، لا بد من رؤية وطنية متجددة تُعطي للتخييم موقعًا استراتيجيًا ضمن السياسات العمومية للتربية. رؤية تُمكن المؤطرين من التكوين المستمر، وتوفر بيئة عمل داعمة، وتحفز الابتكار، وتضع الطفل في قلب العملية.
وإذا كانت بعض المخيمات ما تزال تعاني من محدودية الإمكانات أو نقص التأطير، فإن هذا لا ينبغي أن يحجب الدينامية التي تعرفها الساحة الجمعوية، حيث تبرز مبادرات نوعية تستحق التثمين، وتُشكل نواة يمكن البناء عليها. وهنا يبرز دور الإعلام التربوي في تسليط الضوء على هذه التجارب، ونقلها من الهامش إلى الواجهة.
لنتأمل ما يحدث في بلدان أخرى. في كندا، تُعطى الأولوية لمهارات الحياة والتواصل، حيث يُدرَّب الأطفال على حل النزاعات، بناء الفريق، والتفكير النقدي. في فنلندا، المخيمات مدمجة في سياسة التعليم، وتُستخدم كمختبرات لقياس أثر التربية غير النظامية. في اليابان، الأطفال يُكلفون بابتكار حلول لمشكلات حقيقية في مجتمعهم ضمن ورشات تشاركية. أما في فرنسا، فالمخيم حق اجتماعي وتربوي مصون بقوة القانون.
ما الذي يمنعنا من أن نبتكر؟ من أن نؤسس لمخيمات رقمية هجينة، تُديرها تطبيقات ذكية، تُمكن الأطفال من إنتاج محتوى، والتواصل مع نظرائهم من مدن أخرى، وتقاسم التجارب؟ لماذا لا ننشئ منصات وطنية لبرامج التخييم، تربط بين الجمعيات والمؤسسات التربوية، وتضمن التكوين المستمر، والتوثيق، والتقويم؟
الوعي الوطني لا يعني فقط رفع العلم، بل رفع مستوى وعي الأطفال بحقوقهم، بتاريخهم، بثقافتهم. لا يمكن بناء مواطن في الخفاء. يجب أن نؤمن بأن التربية على الانتماء تمر من اللعب، من الحكاية، من النقاش، من الإبداع.
لقد آن الأوان لتنزيل السياسة العمومية الجديدة للتخييم حيث الطموح ألا تكون فيها المخيمات امتدادًا لروح المدرسة، ولا استنساخًا لها، إعادة النظر في طرق التكوين، وفي معايير الدعم، في أنماط البرامج… غير كاف إن لم ترافق العملية قطيعة مع المقاربة التقليدية للتخييم، بثورة عقلية ذهنية.
نحتاج إلى أن نُعيد للتخييم هويته التربوية، ونُحوله من لحظة موسمية إلى مشروع وطني مستدام. فالتخييم ليس ترفًا. إنه معمل مواطنة. وهو إن أُحسن استثماره، سيساهم في صناعة جيل جديد: طفل لا يحفظ الدروس فقط، بل يحلم، يُفكّر، يُعبّر، يُغيّر. جيل لا يكتفي بأن يحب الوطن، بل يصنعه.
ففي قلب كل فضاء تخييمي، إذا ما صُمّم بذكاء، يمكن أن تنبعث شرارة وعي جديدة… تضيء ما لم تستطع المؤسسة التعليمية أحيانًا أن تضيئه.

الكاتب : محمد قمار - بتاريخ : 03/06/2025