لا قبر، لا شاهد، لا أثر .. حكاية حياة العلمي، الأم التي تبحث عن جثة ابنها التهامي بناني منذ 17 سنة

قبل 17 سنة، تقريبا، خرج التهامي بناني، الشاب اليافع الذي كان لا يزال آنذاك في ربيع عمره، من بيت عائلته بالمحمدية، لكنه لم يعد، ما بدا حينها وكأنه مجرد غياب عابر، تحول تدريجيا إلى واحدة من أكثر القضايا الغامضة والمقلقة التي شهدها الرأي العام المغربي، قضية تمزج بين الألم والدموع، وبين حقيقة تتوارى خلف ستار سميك من الغموض والأسئلة الحارقة التي لم تجد لها الأم المكلومة حياة العلمي، الأجوبة الشافية التي من شأنها أن تطفئ، ولو قليلا، لوعة فراق فلذة كبدها.

رغم مرور السنين، ظل اسم التهامي عالقا في ذاكرة المغاربة، كلما تجدد الأمل في فك لغز اختفائه، أو خرجت والدته، بوجهها المتعب وقلبها المفجوع، تروي تفاصيل تلك الليلة المشؤومة وتستعرض مسار بحث مضن، قادها من مراكز الشرطة إلى ردهات المحاكم، ثم إلى المقابر، باحثة عن قبر يحتضن جسده، أو أثر يقود إلى فك لغز اختفائه الغامض.
لم تكن التحقيقات الأولى كافية، كما تقول الأم، بل شابتها الكثير من التناقضات، وسيحرك وزير العدل الأسبق الاتحادي محمد بوزوبع القضية لتبدأ خيوط الحقيقة في الظهور سنة 2019، حين توصلت التحريات الأمنية إلى تحديد سبب الوفاة، ووجهت تهمة القتل لأصدقاء التهامي بناني الذين أثبتت التحريات أنهم كانوا معه في حفلة عيد ميلاد، بإحدى الفيلات، بمدينة المحمدية. وتم الاستماع إلى رواياتهم حول ما وقع ليلة اختفائه، وهي الروايات التي فتحت الباب أمام سيناريو مروع: وفاة الشاب بعد تناوله مواد ممنوعة، وقيام «أصدقائه» بالتخلص من جثته، خشية الملاحقة القانونية.
لكن الغموض لم ينته عند هذا الحد، فالقبر الذي دفنت فيه «جثة» وجدت مفصولة الرأس لم يكشف عليه إلى اليوم، والتحقيق، رغم الأحكام القضائية الصادرة، لا يزال بنظر كثيرين خصوصا الأم حياة العلمي، ناقصا، وفي كل ظهور إعلامي لها، تصر السيدة حياة على المطالبة بحقيقة كاملة لا تحتمل التجزيء، مؤكدة أنها “بْغيتْ غير نْعرف شنو وقع لولدي، وفين هي جثته، وفين مدفون؟”، رافضة دفن ابنها في الذاكرة دون يقين حقيقي حول مصيره ودون أن تجد طريقا لجثمانه المدفون وسط آلاف الأسئلة التي لم تحر لها جوابا بعد سنوات وسنوات من الانتظار والترقب والبحث المضني عن حقيقة تأبى الظهور.
هي إلى اليوم، والقضية أمام محكمة الاستئناف بعد الحكم ابتدائيا على المتهمين الرئيسيين بعشرين سنة لكل واحد منهما، لا تزال تواصل بحثها عن الحقيقة بعد مرور سنوات كثيرة على اختفاء التهامي بناني. أم لم تستسلم، ولم تتنازل رغم مرور الزمن وتراكم الجراح، لا تزال تصرخ في وجه النسيان، مطالبة بكشف مصير ابنها، قائلة: «لن أستسلم… لن أتوقف حتى أعرف الحقيقة وأدفن ابني بيدي»..
جثة التهامي بناني لا تزال مجهولة المصير. لا قبر له، ولا شاهد، ولا أثر. الجثة الوحيدة التي نُسبت إليه ودفنت تحت اسم «إكس بن إكس» اختفت وسط سلسلة من المعطيات المفقودة: تواريخ، أرقام، أختام، وتوقيعات سقطت جميعها في بئر التجاهل والتسويف والإنكار.
رغم كل شيء، تواصل حياة العلمي بحثها بوسائل محدودة، متشبثة بحدسها الذي لا يخونها. وتؤكد أن الصور التي توصلت بها، رغم تشوهها، وخلو الجثة المكتشفة من أعضائها، حسب ما قيل لها، مما يزيد من تعقيد القضية، تعود لابنها التهامي، لكنها تُصر على معرفة مكان دفن الجثة والتأكد من سبب الوفاة، رافضة بشكل قاطع الرواية التي نسبت الوفاة إلى جرعة زائدة من المخدرات.
«ابني لم يكن متعاطيا. كان فتى نابغة، متفوقا، الأقرب إلي من بين أبنائي، يساعدني في البيت، وكان محبوبا وخلوقا. فكيف يمكن أن يتعاطى المخدرات دون أن أشعر بذلك؟»، تقول الأم وهي تستعيد ذكرياتها مع ابنها الذي كان يتابع دراسته بالسنة الأولى بالثانوية التقنية، شعبة الكهرباء الميكانيكية « Électrotechnique «.
تحمل حياة العلمي في قلبها جرحا لم يندمل، وأسئلة تبحث عن أجوبة. لا تزال تطالب بإجراء خبرات دقيقة على هواتف المتهمين وأفراد عائلاتهم، وكذا على هواتف الشهود، بمن فيهم أصدقاؤه المقربون، وطبيبة التشريح، ومحافظ مقبرة الغرباء، وحارس الغابة التي عُثر فيها على الرفات المنسوب إلى التهامي، وبائع اللبن في ذات الغابة، ثم حارس الشركة التي وُجدت الجثة قربها. أشخاص، حسب قولها، تم التحقيق معهم بشكل سطحي، معتبرة أن الخبرات السابقة كانت غير مكتملة ومبتورة.
كما طالبت بإعادة فتح التحقيق في القضية واستدعاء شهود أساسيين كان يمكن أن يساهموا في فك لغز الاختفاء.
تستحضر العلمي واقعة محاكمة القاصر، وهو أحد المشتبه بهم الرئيسيين، الذي حُكم ببراءته بعد سلسلة من التأجيلات، وتقول:
«لم يتم الاستماع إلى جميع الأطراف، وتم النطق بالحكم بعد سلسلة من التأجيلات.»
وفي شهادتها لجريدة الاتحاد الاشتراكي، كشفت العلمي أنها تابعت خيوطا مهمة قادتها إلى شهادات خطيرة من شهود استُدعوا، لكن لم يُحقق معهم بشكل معمّق، رغم أن حل لغز اختفاء التهامي قد يكون بين أيديهم:»أعرف كل المجموعة التي كان يرافقها ابني، ومن بينهم فتاتان، وقد طالبت بإجراء خبرة على هواتفهم في الفترة التي اختفى فيها التهامي.»
وتتابع:» اتصلت بي إحدى الفتاتين صباح الليلة التي اختفى فيها التهامي، وسألتني إن كان قضى الليلة في البيت. بعد مواجهتها وإلحاحي، اعترفت أمام أفراد من أسرتها، وبعد أن أقسمت على المصحف، أن التهامي بعد أن وُضعت له مادة ما في مشروبه قُتل، وأُحرقت جثته، ثم رُميت في البحر، لكنها تراجعت عن أقوالها بعد ذلك…».
كما دعت حياة العلمي إلى فتح دفتر محاضر الدرك الملكي المحرّر بمسرح الجريمة عند اكتشاف الجثة المجهولة، مؤكدة أن هذا المستند قد يكشف معطيات مهمة. وتُصر الأم على ضرورة إجراء خبرة تقنية شاملة على جميع الهواتف المرتبطة بالقضية، باعتبار أن خيوط هذا اللغز متشابكة في المكالمات التي جرت ليلة الاختفاء، قائلة:»حين توصلنا بكشف الخبرة في ذلك الحين، لفت انتباهنا الكم الهائل من المكالمات التي جرت بين المعنيين، في توقيت متقارب، ولفترات قصيرة. كان ذلك دليلا على ارتباك واضح في تلك اللحظات الحرجة. الأخطر من ذلك، هو اختفاء عدد من المكالمات أو بتر تواريخها وأوقاتها، فلماذا قُطعت سلسلة المكالمات؟ تتساءل العلمي وتردف بصوت لا يخلو من مرارة:
«صدر الحكم على المتهمين الرئيسيين بعشرين سنة في غياب القبر الذي دفنت فيه جثة ابني التي لم أتوصل منها إلا ببضع صور، وهو ما يشكّل تناقضا صارخا بين أقوال الشهود وتصريحات المتهمين، الذين لا يزالون إلى اليوم ينكرون مقتل التهامي». ولم تُخف العلمي تخوّفها وقلقها من مجريات القضية المعروضة حاليا على أنظار محكمة الاستئناف، والتي من المرتقب أن تنطلق أطوارها بداية الشهر المقبل، «أنا أتخوف من أن يُعاد نفس السيناريو الذي عرفته محاكمة القاصر، وأتمنى ألا يتكرر هذا المسار المؤلم. كل ما أريده هو الإنصاف لي ولابني. ما زلت أؤمن – رغم كل ما حدث – بأن في بلدنا قضاء نزيها، ومحققين شرفاء، لا تغيب عنهم الحقيقة ولا يتغاضون عنها. لا أريد لذكرى ابني أن تسقط في بحر النسيان. أريد لروحه أن تُنصف، وللقانون أن يأخذ مجراه الطبيعي. أريد للعدالة أن تُقال بكل وضوح، وأن يُحاسب كل من تورط، ليعرف الجميع أن دم التهامي لن يضيع، وأن الحق لا يموت.»
وتقول الأم المكلومة، وهي تقاوم دموعا لم تجف منذ سبعة عشر عاما منذ تلك الليلة المشؤومة التي خرج فيها التهامي ولم يعد، لتبدأ معها مأساتها الطويلة ومعركتها التي خاضتها وحيدة، مصرة على معرفة الحقيقة مهما طال الزمن:
«تلك الليلة كانت بداية معاناتي ومعاناة أسرتي. كانت ضربة قاصمة لظهري. منذ ذلك اليوم وأنا أعيش وجعا لا يهدأ، يمتد في الزمان والمكان. لا أعرف أين دُفن ابني، ولا أملك حتى حق الحزن عليه كما ينبغي. أريد أن أعرف: أين قبره؟ جثته وحدها قادرة على أن تخبرني كيف قُتل… أن تجيب عن الأسئلة المضنية التي تؤرقني وتحرم عينيّ النوم.»
بداية الحكاية

في 14 مارس 2007، غادر التهامي بناني، البالغ من العمر آنذاك 17 سنة، منزل العائلة دون أن يحمل معه شيئًا يدل على نيته في الغياب الطويل. بحسب ما أكدته والدته، حياة العلمي، آخر مرة وقعت عينا أحد أفراد الأسرة على التهامي حين لمحه أخوه الأصغر وهو يستقل سيارة رفقة أصدقائه، حياه بحبور، ثم ومنذ تلك اللحظة، انقطعت أخباره، ولم يظهر له أثر…
الشكوك الأولى
والصمت الطويل

ظلت العائلة تُصرّ على فتح التحقيق وتتبع كل الخيوط المحتملة، لكنها كانت تصطدم، حسب الأم، بجدار من الصمت. لم تُفعّل تحريات جادة إلا بعد سنوات طويلة، رغم الشهادات المتفرقة التي تحدثت عن وجود خلافات بين التهامي وبعض أصدقائه، وعن احتمال وفاته نتيجة جرعة زائدة من المخدرات.
وفي تطور مفاجئ، بدأت خيوط القضية تنكشف سنة 2019، حين وُجّهت التهمة إلى ثلاثة من أصدقاء التهامي. بعد التحقيق معهم، أقر أحدهم أن الشاب توفي إثر جرعة زائدة، وتم التخلص من جثته دون تبليغ السلطات.
في سنة 2023، وبعد محاكمة استمرت شهورا، أصدرت المحكمة حكما بالسجن 20 سنة نافذة في حق اثنين من المتهمين، بتهمة القتل العمد، مع تحميلهم غرامة مالية لفائدة العائلة.
لم تُقنع الأحكام الصادرة والدة التهامي، التي خرجت في تصريحات مؤثرة تؤكد فيها أن “العدالة لم تكتمل ما دامت الحقيقة ناقصة والقبر مفقودا”. وطالبت الأم بإعادة فتح التحقيق في تفاصيل المكالمات الهاتفية التي أجريت ليلة الاختفاء، والتي تعتبرها خيطا مهما تم تجاهله في التحقيقات الأولية.
قضية رأي عام بامتياز

تحوّلت قضية التهامي إلى وسم متداول على مواقع التواصل الاجتماعي، واختار العديد من النشطاء رفع شعار “العدالة للتهامي بناني”، معتبرين أن ما وقع لا يتعلق فقط باختفاء شاب، بل بقضية مجتمعية تسلط الضوء على كيفية التعامل مع حالات الاختفاء الغامض.
قضية التهامي بناني تظل، بعد مرور كل هذه السنوات، جرحا مفتوحا في قلب والدته، وسؤالا مؤلما في ضمير المغاربة: كيف يمكن لشاب أن يختفي بهذه الطريقة دون أن تترك الحقيقة أثرا واضحا؟ وهل يُمكن للعدالة أن تُعيد بعضا من الطمأنينة إلى أم قضت عمرها بين المحاكم والمقابر، باحثة عن جواب لسؤال ملح : « فين هي جثة ولدي؟؟!»


الكاتب :   إعداد : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 14/06/2025