بالصدى .. الصحة أو منظومة «العربدة»

وحيد مبارك
إن كل فوضى هي بكل تأكيد ليست صحيّة، بل هي عنوان على علّة كبيرة، لأن أي اختلال مهما كان حجمه وطبيعته تترتب عنه تبعات مختلفة الوقع ومتعددة الآثار، لكن «العربدة» التي يعيشها قطاع الصحة في عدد من مجالاته تؤكد على أن هناك خللا فظيعا في مكان ما، لم تتمكن كل الجهود، سواء المبذولة من طرف مصالح وزارة الداخلية أو من وزارة الصحة والحماية الاجتماعية من معالجته، بل أن دائرته تتسع يوما عن يوم، وتكسب جولات جديدة على حساب التخليق والتنظيم والعقلنة.
قطاع يشتكي عدد من الممارسين فيه من مجالات مختلفة من الضرر الذي يطالهم من جهة كفئة من المهنيين، والذي يهدد الصحة العامة من جهة ثانية حسب تأكيداتهم، ومن بينهم صيادلة الصيدليات الذين أعيتهم النداءات والمناشدات والمراسلات، بل أنهم خلقوا لجانا لـ «اليقظة»، من أجل مطاردة المتطاولين على المهنة الذين يقومون بـ «بيع» أدوية ومنتجات دوائية، المفروض أن تتواجد في رفوف الصيدليات، وأن تتوفر فيها شروط السلامة في علاقة بـ «الهويّة» والنقل والتخزين وصولا إلى صرفها للمريض والمواطن عامة، ( يبيعونها ) بالاعتماد على الشبكة العنكبويتة ومواقع التواصل الاجتماعي و»ريلزات المؤثرين والمؤثرات»، ويروّجون لـ «فوائدها» المزعومة، في غياب كل أشكال الرقابة، حتى وإن كانت هذه المنتجات قد تتسبب في أضرار متعددة لمستعمليها.
وإذا كان الصيادلة يشتكون من هذا المشكل ومن أعطاب أخرى تهدد الصيدليات بإغلاق أبوابها وبـ «الزج» بأصحابها في متاهات الإفلاس وتداعياته، فإن هيئة أطباء الأسنان بدورها، خرجت لتندد وتحذّر من تنامي الممارسات غير القانونية لمهنة طب الأسنان من طرف من وصفتهم بـ «أشخاص يفتقرون إلى التكوين الأكاديمي والتأهيل القانوني، الذين يزاولون أنشطة طبية داخل محلات لا تتوفر على الحد الأدنى من شروط السلامة الصحية والبيئية، ما يُشكل تهديدا مباشرا لصحة المواطنين». ونبّه المختصون في صحة الفم والأسنان إلى ما اعتبروه «ممارسات عشوائية» تنتشر بشكل غير قانوني داخل محلات تُعرف بـ «صانعي رمامات الأسنان»، مشيرين إلى أنه يتم استقبال المواطنون بداخل عدد منها حيث تُجرى لهم علاجات طبية كارثية، في خرق سافر للقانون ولأخلاقيات المهنة!
ويستفيض أطباء الأسنان في توضيح ملامح الفوضى التي تعرفها مهنتهم، مؤكدين على أن تلك الممارسات العشوائية وغير القانونية، أسفرت عن حوادث مأساوية من بينها حالات وفيات بسبب استعمال مواد تخدير أو مواد لعلاج الأسنان مغشوشة أو منتهية الصلاحية، أو نتيجة لجرعات زائدة من «البنج» بطريقة عشوائية، كما أنها أدت في حالات أخرى إلى تسجيل إصابات بعاهات مستديمة وأمراض معدية، كلها ناجمة عن غياب شروط الوقاية والتعقيم.
ولأن لكل فئة مشاكلها وهمومها، فإن المنظومة الصحية بتعدد المتدخلين فيها تعرف تفشّيا واسعا لمظاهر العربدة، ومنها ما دقّ بشأنه المبصاريون ناقوس الخطر، الذين أعلنوا عن إمكانية خوضهم لإضراب وطني شامل يوم الاثنين 23 من الشهر الجاري، بسبب ما وصفوه بالوضع الكارثي الذي تتسبب فيه عدد من الممارسات التي تمس بمصداقية المهنة وتضر بالصحة البصرية للمواطنين، مشددين على أن هذا القطاع يعرف فوضى عارمة وغيابا شبه كلي للرقابة على مؤسسات التكوين، مما يشجع البعض على بيع شهادات تخوّل لأصحابها مزاولة مهنة لا صلة لهم بها، الأمر الذي تتسبب في تفشي الكثير من السلبيات التي تهدد المواطن بضرر كبير وتمسّ بسمعة المهنيين والمهنة التي باتت مهددة بالسكتة القلبية.
هذا التنديد، انخرط فيه في وقت سابق أطباء للجلد والتجميل كذلك، الذين اشتكوا بدورهم مما تشهده بعض «الصالونات»، التي انتقلت من تقديم خدمة تصفيف الشعر والاعتناء به وتقليم الأظافر وما يرتبط بهذه العملية إلى القيام بتدخلات تصنف ضمن خانة ما هو طبي من حقن وغيره، لتصبح بذلك عبارة عن عيادات غير قانونية، تشهد ممارسات يصفها عدد من الأطباء المهنيين في المجال بالخطيرة، الذين يشددون على أنهم وجدوا أنفسهم غير ما مرة أمام حالات تعرضت لتبعات خطيرة وتوجه أصحابها إلى المختصين هذه المرة من أجل معالجة ما يمكن علاجه؟
إن الجلوس إلى مهنيي الصحة بكل فئاتهم، لا يمكن إلا أن يكشف عن وجه واحد على الأقل من بين وجوه كثيرة لمظاهر العربدة التي يمارسها «دخلاء» على المنظومة، الذين يسعون وراء تحقيق ربح مادي سريع بأي شكل من الأشكال، تحت مبرر ويافطة «التخفيض»، وعدم الإضرار بجيوب المواطنين، ومراعاة قدرتهم الشرائية، حتى وإن تسببوا لهم لاحقا في ثقب تلك الجيوب وفي مخاطر تتهدد صحتهم وتترتب عنها تداعيات جد وخيمة، لا يمكن لأي كان أن يقدّر حجمها إلا بعد وقوعها، وهو الأمر الذي حوّل قطاعات صحية إلى مثابة «أسواق شعبية» مفتوحة على كل الممارسات التي تحتاج إلى تدخل حازم من أجل تفعيل التشريعات المؤطرة لكل مجال، أو لتكييف بعضها مع المستجدات للحدّ من الفوضى التي تفشّت على نطاق واسع خارج كل إطار أخلاقي وقانوني.
الكاتب : وحيد مبارك - بتاريخ : 16/06/2025