إن العقل الذي ينشد الحرب، ويأبى الحوار في أفق عقلاني، هو عقل متوحش دموي، ذو نزعة تسلطية، تغيب عنه شمس القيم الإنسانية الكونية
كلما حاول الإنسان تحرير نفسه من آلام الماضي وجراحاته، هبت عليه رياحه برماده المشتعل سوادا، فتنتقي ذاكرته منه ما يخدم غليان حاضره بحطب الذكريات، وذلك لأن نوازعه تفضل بالأحرى إحياء الفترات التي تشعره بالتفوق، فيطمس عن طريقها الفترات المشينة وقيود الذكريات الأليمة.فهويتنا عامة مستمدَّة من ماضينا الذي كلما تخلينا عنه فقدنا البوصلة، وأضعنا مفتاح الوجود، ومن ثمة نكون قد فسحنا للخوف المجال ليسيطر علينا، وأحسسنا بأن الخطر يحدق بنا من كل حدب وصوب. وعليه، فإننا نتشبث بهذه الهوية الخاصة، ناسين أننا نعيش في مجموعات بشرية مختلفة، فننجر ـ تحت ضغط هوَس الهوية ـ إلى الدفاع عن حقنا في الوجود، حتى ولو أدى ذلك إلى العسف على حقوق الآخرين أيضاً في الوجود.
إن الذكريات المسمومة التي تأتينا من الماضي هي التي تحثنا على الثأر، وعلى إشعال الحروب، إما طمسا لسواد الماضي وانكساراته، وإما إعلاء لنغمة زهو لم يعد الزمن يستسيغها، ويستحبُّ العيش فيها. وكيف ما كانت الذرائع المرفوعة لشرعنة الحرب ، تبقى أوْهَى من خيوط العنكبوت .فالحرب في حد ذاتها جريمة لا تعلو عليها جريمة، ولا تغرَّنك التسميات التي تُبدَع لتصرف السوء عن هذه الجريمة العظمى المسماة بالحرب، ولنعتبرْ الهدفَ الأول والأخير من توثيق فظاعاتها وما يُرتكب فيها من قتل لكلِّ ما هو إنساني وجميلٌ فينا ليس تعزيزا لقدرتنا، بل هو تذكير بما ينبغي أن نحذَر منه ونحن نسير في طريق المستقبل.
فدعاة الحرب كامنون في كل الطرق التي تؤدي إلى مستقبل الإخاء، والتعاون على جعل الأرض تُشرق سلاما ورخاء، ينظِّرُون لها،وكأنهم ينظِّرون لحدائق الموت بلغة العسل، وكمْ هو مشين لوجه الفكر أمرُهم هذا، وأسطعُ وجه عن هذا المنحى هو «كلاوز فيتز» الذي حاول في كتابه «في الحرب» أن يصوغ فلسفة الحرب، ويؤسس لها أقانيم تجعلها أكثر من مجرد فنٍّ، لأنها أقوى ارتباطا بالحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل هي نتيجة لهذه كلها.فهذا المنظٍّر للحرب كان يستمتع بها ويستلذ استلذاذ مشاهد لشريط سينمائي عن روعة العشق، ويَنظُر إليها كظاهرة وكعلم وكتصوُّر فلسفي، ويعتبرها شكلا من أشكال الوجود الاجتماعي، ونِزاعا بين المصالح الكبرى،لا يُسَويه إلا الدم.وغير خاف أن السياسة هي الرحم التي تنمو فيها الحرب وتولد مجنونة.
فالحرب هي مسألة عنف ضارٍ، لا مجال فيها إلا لسفك الدماء، وهدمِ البناء، ولا مجال فيها لرد أي حق كان بخطاب الرصاص قبل خطاب العقل. وكاذبٌ ذاك الذي يُوهم الآخرين بأنه سينتصر دون سفك دماء. فالشراسة والعدوانية والعنف والوحشية سمات من سمات أي حرب،إن اختلَّت اختلَّ مفهوم الحرب،إذ بحساب الاحتمالات تُثبِت الحربُ واقعيتها المريرة، ولا إنسانيتَها بأي وجه من الوجوه، حتى ولو حاول (كلاوز فيتز) إلباسها قناعا إنسانيا في بعض الوجوه.فهي في المحصلة تبقى مولودا بشعا يلده الساسةُ فيُزهق أرواح المحكومين، ويُبدد ممتلكاتهم وأموالهم،أما الرؤوس التي ولدته فإنها في منجى من كل هذا، بل تُحصِّل منه لنفسها على منافع ومصالح ما كانت لتحصل عليها في فترة السلم.
إن العقل الذي ينشد الحرب، ويأبى الحوار في أفق عقلاني،هو عقل متوحش دموي ذو نزعة تسلطية، واستيهامات تَؤزُّها كاريزما مفقودة، تغيب عنه شمس القيم الإنسانية الكونية، وتشرق فيه ظلمات بعضها فوق بعض ،حتى أنه لا يرى غير ظله .وإنه لا يمكن للكلمات أن تصف الشجاعة التي يحتاجها المرء كي ينسى الألم والمعاناة التي عاشها بسبب الحرب، كما أن كل الأعذار والاعتذارات والمحاكمات لا تساوي قطرة دم إنسان قتلته حرب أشعلها إنسان آخر.
ليست الشجاعة هي الانتصار في حرب، وإنما الشجاعة في أن نخطو خطوة أولى نحو مستقبل منسوج أفقُه بالسلام ، وأن نعترف بالجرائم التي اجترحناها في الماضي تحت مظلة الحرب، وذلك لأن الماضي لم يعد له أي حق علينا، بل هو الآن مجرد كتاب نأخذ منه العبر لنعيش حاضراً أفضل يقوم على العدالة.