المناضل العضوي في مواجهة السياسي الثرثار

محمد أكيام

في مشهد سياسي مثقل بالتحول والانكسار، بات من الضروري التوقف عند بعض السجالات التي تكشف الفارق العميق بين من اختار درب الكلمة موقفا، ومن اتخذ من الصراخ وسيلة للوجود. في هذا السياق، تبرز الواقعة المؤسفة التي استهدف فيها عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة الأسبق، أحد أعمدة الصحافة الوطنية، وواحدا من الأصوات الفكرية الجادة في المغرب: المناضل والأستاذ عبد الحميد جماهري. فما وقع ليس مجرد تجاذب عابر أو رد فعل متشنج، بل هو علامة على انهيار النموذج السياسي الشعبوي، وارتباكه أمام صوت المثقف العضوي، الذي لم يرضخ يوما لمنطق المزايدة السياسية.
عبد الحميد جماهري ليس مجرد كاتب مقالات، بل هو صوت اتحادي شجاع، ظل وفيا للمدرسة الوطنية الديمقراطية التي تعلي من شأن العقل وتؤمن بأن الحرية مسؤولية. لم يكتب ليرضي، بل كتب دائما ليستفز على التفكير. وفي كل لحظة حرجة، كان قلمه في خدمة الحقيقة، لا في خدمة الأجندات.إنه امتداد لنمط «المثقف العضوي» كما عرفه أنطونيو غرامشيالذي يربط مصيره بمصير المجتمع الذي يعيش فيه، ويخوض معركة الوعي بدل معارك الاصطفاف. ولذلك لا غرابة أن يثير حضوره قلق من اعتادوا على مثقفي «التبرير» و»التأثيث».
من جانبه، يواصل عبد الإله بنكيران أسلوبه المعروف في التعامل مع الرأي المخالف، حيث يحول كل اختلاف في الرؤية إلى مواجهة شخصية، وكل صوت مثقف إلى تهديد ينبغي إسكاته. وفي غياب مشروع فكري واضح أو رؤية سياسية متماسكة، يلجأ بنكيران إلى الخطابة المفرطة والتصعيد اللفظي، مقدماعروضا بهلوانية تستهدف جمهورا أنهكته الحاجة ولا يستهويه السجال العقيم. وقد خاض تجربة السلطة من موقع رئيس الحكومة، لكنه خرج منها دون أن يترك بصمة حقيقية، بل بخيبة أمل وخسارة سياسية فادحة، بعد أن تراجع عن وعوده الأولى وخضع سريعالإملاءات المؤسسات المالية الدولية.
حين يهاجم بنكيران الأستاذ عبد الحميد جماهري، فهو لا يهاجم شخصا، بل يهاجم النموذج الذي يربكه: المثقف المستقل، الحر، غير الخاضع للابتزاز السياسي أو المذهبي أو الحزبي. فهو يكتب وهو مدرك لمسؤوليته الأخلاقية والتاريخية، لا يبحث عن فتات الاعتراف ولا عن «معلفة» من السلطة، كما يفعل كثيرون.الفرق بين الرجلين شاسع، فأحدهما يتحدث ليسمعوالثاني يكتب ليفكر، أحدهما يبحث عن بطولات وهمية، والآخر يناضل من أجل القيم في صمت، أحدهما يرى نفسه زعيما مهما قال، والآخر لا يدعي الزعامة، بل يكتسبها بأخلاقه ومواقفه…
المشكل ليس في الإسم، بل فيما يمثله كل طرف. الأستاذ جماهري يمثل استمرارية ضمير الاتحاد الاشتراكي، ووفاء المثقف لموقعه كمحفز على النقد والإصلاح. أما بنكيران، فهو يمثل الانحدار الذي جعل من السياسة مادة للتهريج، وجعل من الدين مظلة لتبرير التناقضات. ولعل الرد الذي جاء من المناضل الكبير عبد الحميد جماهري لم يكن من موقع الجرح الشخصي، بل من موقع الدفاع عن معنى الكتابة، وعن شرف الانتماء لحزب ناضل طويلا ضد القمع السياسي والاستبداد الديني. لذلك، كان رده متماسكا، عقلانيا، مستندا إلى سردية النضال لا إلى نغمة الضحية.
في الختام، وجب التأكيد أن الفرق بين المثقف والسياسي الثرثار، أن الأول يبقى حتى بعد موته، والثاني ينسى حتى قبل أن يغادر. وعليه، وسيبقى عبد الحميد جماهري، مناضلا لا يهادن، اتحاديا لا يساوم، ومثقفا لا يخون قلمه.أما بنكيران، فسيبقى شاهدا على عصر استهلك فيه الكلام حتى ابتذل، وسقط فيه الزعيم المفترض في فخ الكلام الفارغ. وهنا بالضبط، ينتصر المثقف… لا بالرد، بل بأن يبقى حاضرا في زمن الانطفاء.

الكاتب : محمد أكيام - بتاريخ : 21/06/2025