في قلب جبال الأطلس، وتحديدا بإقليم ميدلت، جرت، ما بين الخميس 12 والأحد 22 يونيو 2025، فعاليات أول ملتقى دولي لفن الفسيفساء في المغرب، تحت شعار: «الذاكرة منقوشة على الصخر»، وهو حدث فني غير مسبوق، ربط بين الجمال والتاريخ، وبين الطبيعة والفن، حيث تم تحويل الصخور إلى لوحات وأشياء ناطقة بالإبداع، ومجسدة للحكايات في لوحات حجرية تنبض بالحياة.
التظاهرة التي استأثرت باهتمام قنوات الإعلام، تمت بتمويل واحتضان من طرف «أزا ڤيلاج للسياحة والثقافة والترفيه» بشراكة مع «بريد بنك المواطن»، وتحت إشراف مديرة التظاهرة وصاحبة المشروع الفسيفسائي، فطيمة بنلعلى، استضافت العديد من الفنانات والفنانين المنتمين لدول مغاربية ولأخرى مختلفة من العالم، التأم جميعهم في فضاء جبلي لإنجاز لوحاتهم الفسيفسائية بأشكال مستوحاة من البيئة الطبيعية والهوية المحلية.
وكانت قد انطلقت فعاليات الملتقى باستقبال الوفود الفنية، وتقديمهم للمؤسسة المستضيفة، تلاه توزيع البرنامج الرسمي والشارات التعريفية، ثم جولة أولى للورشة الإبداعية ب «تمناي»، التي فتحت فضاءها لأعمال الفنانين، قبل الإعلان الرسمي عن افتتاح التظاهرة، أعقبه نشاط ميداني لزيارة المسار الإثنوغرافي لموقع «إيگلدان» الثقافي وافتتاحه، والذي مثل محورا رمزيا وموضوعيا للأعمال الفنية.
وتخللت الافتتاح جولة إرشادية في «منتزه طارق دي تيمناي الزراعي البيئي»، جمعت بين علم الجيولوجيا والنباتات، لتختتم بعشاء تعارفي وحفل ترحيبي بين المشاركين، على أن تتوالى الورشات اليومية انطلاقا من الجمعة 13 يونيو، حيث تقرر تخصيص الفترات الصباحية والمسائية للعمل الإبداعي، وتخصيص الأمسيات للقاءات معرفية، مع عرض شرائح إرشادي حول الموقع الثقافي «إيگلدان» ومسار المعرض الإثنوغرافي الخاص به.
وشمل برنامج التظاهرة العمل على اكتشاف التراث الطبيعي والمعماري للمنطقة، من خلال رحلة ميدانية إلى «سيرك جعفر» لاكتشاف النباتات والحيوانات المحلية، ثم زيارة الموقع الأثري «بوصرف» وممرات «المغارس»، ورحلة استكشافية الى منطقتي» أحولي» و «ميبلادن»، وجولة معمارية إلى قرية «توراوت» للتعرف على نماذج البناء الجبلي التقليدي، قبل جلسة طهي مفتوحة يديرها «شيف» يقوم بتحضير طبق أمازيغي تقليدي.
وفي ذات السياق، تواصلت الأيام الموالية، اليوم السادس والسابع، بانخراط مكثف في الورش الإبداعية المفتوحة، مع تنظيم لقاء بأحد الحرفيين المغاربة المتخصصين في تقنية الفسيفساء التقليدية، ليقدم ورشة عملية للفنانين الدوليين، على أساس إبراز الخصوصية المغربية لهذا الفن، كما تم فتح الورشة أمام المشاركين والمهتمين لاكتشاف تقنيات الفسيفساء الحديثة، في أجواء من التفاعل المشترك وتبادل الخبرات.
في اليوم الثامن، خصصت الفترة الصباحية لورشة الفسيفساء المغربية بقيادة «معلم محلي»، أعقبتها بعد الزوال جولة جديدة، ثم جلسة طهي خاصة قُدم خلالها طبق حلوى محلية اعتمدت على تفاح ميدلت المعروفة وطنيا بهذه الفاكهة ومن أبرز رموزها الزراعية، فيما تم تحويل اللقاءات الموازية إلى فسحات تبادل الخبرات والثقافات بغاية إضفاء على الحدث روحا إنسانية فنية حميمية.
وجرى في اليوم التاسع، التحضير الفعلي لعرض الأعمال المنجزة، حيث باشر الفنانون تثبيت اللوحات الفسيفسائية على الحائط الطبيعي، ضمن تنسيق بصري دقيق يراعي تضاريس الصخور وروح المكان، كما أنجز خلال اليوم ضبط وتنظيف الأعمال الفنية، وتحضير فضاء المعرض المفتوح، والأول من نوعه بالمغرب، وغايته ربط هذا الفن بتعزيز التراث المحلي/الوطني ورفع مستوى الوعي حول الحفاظ على الثقافة الأصيلة.
أما اليوم العاشر، فشهد الافتتاح الرسمي لموقع «إيگلدان» بآيت عياش، كأول معرض فسيفساء مفتوح في الهواء الطلق بالمغرب، مع عرض الأعمال المنجزة وشهادات الفنانين، إلى جانب معرض موازٍ للوحاتهم الإبداعية، وعقد ندوات علمية وفكرية شارك فيها باحثون وأكاديميون، من معهد الآثار والتراث بالرباط، وجامعة سيدي محمد بن عبد الله، حول تاريخ الفن والزخرفة والتعبير الثقافي في الفنون التشكيلية والتراث بمنطقة ميدلت.
واختتمت فعاليات الملتقى بتقديم شهادات المشاركة تكريما للفنانين، تليها أمسية احتفالية موسيقية غنائية من الفن المحلي بما جسد تلاقح الثقافات بين ضيوف الملتقى وسكان المنطقة، على أن يبصم الملتقى برؤية فنية جديدة جعلت من الفسيفساء فنا حضاريا، ليس فقط كتقنية زخرفية، بل ذاكرة منقوشة، ولغة صامتة تنطق بالجمال والتاريخ، ومجال للتلاقي الإنساني بين ثقافات العالم.
ولعل ما أضفى على هذه التظاهرة بعدا تاريخيا عميقا، هو كون فن الفسيفساء نفسه يعد شاهدا حضاريا متجذرا في الزمن، حيث انتشر قبل قرون طويلة، حين اعتمد الفنانون عليه في تزيين المساجد والقصور، وفي اللوحات الجدارية المعاصرة والأرضيات والعواميد، وتصدر منتجاتها إلى مختلف دول العالم، وبرغم طغيان الآلة وتطور التكنولوجيا، ظل هذا الفن اليدوي تحفة خالدة تتحدى الزمن، وجمالية متينة يخشى عليها من الاندثار.
يؤرخ فن الفسيفساء للعصور اليونانية، والرومانية، والبيزنطية، والشرقية، ووصولا إلى الحضارة الإسلامية، ويتنوع في مواضيعه بين الأساطير والفلسفة والميثولوجيا والهندسة والزخرفة والطبيعة، ورغم تعاقب الأزمنة، لا يزال هذا الفن حيا في وجدان المغاربة، وخصوصا في المدن العتيقة، حيث يقدر المغاربة هذا الموروث منذ قرون باعتباره مرآة حضارتهم، وروحا متجددة تسكن الحجر وتترجم الذاكرة.