هو باب الطريق

 

الخطوة الأولى أخطوها هنا والتالية لا أدري بعدُ.
الطريق مُمتد بلا نهاية، تلبّسته حية سوداء تمشى على غير هُدى، ابتلعت كل شيء ولم تترك غير الفراغ، لا حركة… لا حافلات… لا سيارات… كأن الطريق مُجتزأ من فيلم ويستيرن يُمجد الريح والخواء.
المدينة أيضا تحولت إلى مدينة أشباح بمجرد سماع أخبار الجائحة، أُغلقت أوراش البناء والدكاكين والمقاهي، فماذا بقي؟
اعتصموا ببيوتهم رُفقة زوجاتهم وأبنائهم، وأنا ماذا أفعل الآن؟
اجتزت كل هذه الكيلومترات الطويلة حتى هذه النقطة الحضرية التائهة في الخلاء من أجل العمل لأنها تعرف حركية بناء نشطة.
ثم أجدني عاطلا… جائعا… غريبا…
يستحيل أن أستمر هكذا مشردا بدون عمل، حتى الورش الذي كان يأوينا أغلقه صاحبه، فماذا تبقى؟
المسافة إلى قريتي بعيدة جدا، والطريق لم يعد مكانا للعبور، الحواجز والسدود الأمنية تحاصر مداخل ومخارج المدن.
اجتاحني الحنين وقضم مني الكثير، ولم يتبق إلا ما قد يوصلني إلى قريتي.
اختلط عليّ الأمر، هل ما أراه في غفواتي حلما، أو هو تجسيد وتشخيص لحياتي المضطربة، أو نداء ما؟
طيلة أسبوع الارتباك والتفكير والتمحيص تقمصني شكل باب، كل أشكال الأبواب التي ثبّتها في الجدران سابقا جاءت لتؤنسني وتملأ شاشة الرؤيا، أبواب قديمة وجديدة، أبواب بعدة أقفال وأخرى بحلقات ومسامير تزيينية كبيرة، وألواح مثبتة تأخذ شكل حواجز تتخطر بتؤدة حولي، وأخرى ثابتة تنتظر اقتحامي لها، مُعظمها أبواب مشرعة كأنها تدعوني إلى الرحيل، وتذكرني بأن لي أنا الآخر بيتا بباب وإن كان بعيدا جدا، لكنه يبقى بيت يحضن دفء أسرة.
ما علاقة الباب بالطريق التي تنتظرني؟
حينما عوّلت على ترك المدينة والالتحاق ببيت الأسرة، لم أستحضر لا الطريق ولا الصعوبات ولا المسافة الفاصلة ومشاق المبيت، جمعت أغراضي ورحلت، وكأنى سأغادر من باب وأدخل بابا آخر.
ظننت أن الأمر يسير نوعا ما، فقط تلزمني البداية ولم أدر أني أضع خطوة في الجحيم، تخطيت أن أكون حلزونا زاحفا أو مهرا سريعا، كنت بوجمعة فقط المتلهف للوصول إلى بيتهم.
ما أحاول القيام به ليس فعلا خارقا، ولكنها الإمكانية الوحيدة المتاحة للوصول.
في اليوم الثالث فتر الحماس، ولم أعرف ماذا عليّ أن أحمل، وما يُقترض التخلي عنه من متاعي، فقد أنهكني المسير والتنقل أيضا.
أُحاذي الطريق لأنها بوصلتي الوحيدة، أخمد في فراغ الليل الذي ينام جنبي ساكنا رهيبا، كلما أظلمت.
ليست طريق نزهة، هي مسيرة ألم ومعاناة.
في اليوم السادس صرنا حميمين لدرجة التماهي أنا والطريق. اخترقت كل أنواعها واستوطنت قدماي المتورمتان تُرابها، من ولعي بها بغضتها، مللتها، كدت أستسلم للضياع فيها.
في اليوم السابع ولحاجتي إلى الزاد اقتربت من دوار، وليتني لم أجازف، فقد بحثوا عنى في الليل ليصفوني لو لم أُغير مكاني بسبب بعوض المجرى النهري، حسبونى لص ماشية جاء ليتسقط أخبارهم، هذا ما أخبرني به أحد الرعاة في الصباح.
بعد ذلك ملقاي مع الأسفلت أضمن لي وأرحم، لم أحد عنه، تتبعته كمن يقتفي خيط نزيفه ونجاته معا.
هل هي الروح الطاهرة من حلّقت وأوجدت تلك السيارة لتقف لي وتُقلّني وتمسح عني تشردي وجوعي وعطشي؟
قد يكون دعاء سريرة صافية تنتظرني في البيت وأحست بمقدمي.
غير مصدق صاحب السيارة التسعة أيام التي قضيتها راجلا حتى اللحظة، والنقطة التي انطلقت منها، ضاحكا قال:
– أنت الآن تعبر من الزمن الحجري إلى زمن اكتشاف العجلة في لمحة بصر.
-بل ألج باب الحياة.


الكاتب : أحمد شكر

  

بتاريخ : 27/06/2025