كلمة .. إفشال الصحة العمومية

محمد الطالبي
«حين يضطر المريض إلى أن يكون فقيرًا كي يُعامل كرقم، أو غنيًا كي يُعامل كإنسان، نكون قد فقدنا المعنى الحقيقي للحق في الصحة.»
لم تعد المنظومة الصحية في المغرب تمثل ذلك الحلم الجماعي الذي راهن عليه الجميع، من مواطنين وحكومات، بل أصبحت في كثير من مظاهرها نقيض ما كان مرجوًا منها، خاصة حين نربطها بوظائفها الأساسية في الحماية الاجتماعية، وإحداث فرص الشغل للأطر الصحية، وتحقيق العدالة المجالية في الولوج إلى العلاج والخدمات.
لقد كان من المفترض أن يشكّل القطاع الصحي رافعة حقيقية نحو مجتمع أكثر إنصافًا وكرامة، لكن المعطيات المتوفرة تكشف عن واقع مغاير، بل ومقلق. ففي الوقت الذي تجاوزت فيه مداخيل القطاع الخاص الصحي 19.6 مليار درهم سنويًا، لا يزال القطاع العام يعاني من خصاص حاد في الموارد البشرية، حيث لا يتجاوز عدد الأطباء في القطاع العمومي 13 ألف طبيب، بمعدل طبيب واحد لكل 3,600 مواطن، في حين توصي منظمة الصحة العالمية بطبيب لكل 1,000 مواطن على الأقل.
أما على مستوى الإنفاق، فرغم إطلاق مشروع التغطية الصحية الشاملة، فإن الميزانية المخصصة لوزارة الصحة لم تتجاوز 28 مليار درهم في قانون المالية 2024، أي أقل من 7% من الميزانية العامة، وهو رقم دون المعدل العالمي الذي يتجاوز 10%.
وتظل الصحة العمومية، في ظل هذا الوضع، ترزح تحت عتبة العلاج، فالمرافق الصحية تئن تحت وطأة الاكتظاظ، والمرتفقون يشكون الخصاص، والعديد من المناطق ما زالت تشهد وفيات مؤلمة لأسباب يمكن تجنبها، من بينها لسعات العقارب، أو مضاعفات الولادة، أو حتى تأخر وصول سيارة الإسعاف. وما زال المواطن المغربي، خاصة في القرى والمناطق النائية، يُعامل أحيانًا ببرود ولامبالاة تترجم شعورًا بالغبن و»الحكرة»، وهي كلمة يعرفها جيدًا كل من وقف أمام باب مستشفى عمومي في وقت الحاجة.
وفي هذا السياق، تطرح مفارقة عميقة: كيف لقطاع عام، يُفترض أن يكون عماد السياسات الاجتماعية، أن يتحول إلى الحلقة الأضعف في معادلة يفترض فيها التكامل والعدالة؟ في المقابل، يسجل القطاع الخاص نموًا مطردًا، مستفيدًا من هشاشة القطاع العام، دون أن يواكبه ذلك بمجهود استثماري حقيقي يوازي الأرباح الضخمة المحققة.
لسنا ضد القطاع الخاص، بل نريده مساهمًا فعليًا في النهوض بالمنظومة، محفزًا على الجودة، ومطورًا للاستثمار. لكن لا يمكن أن تستمر هذه العلاقة في غياب قواعد واضحة تُجسد التكامل، وتكرس المصلحة العامة بدل الريع، وتفرض الالتزام بالمردودية والعدالة والكرامة، لا الاستغلال المبني على تفاوتات بنيوية وتخلي الدولة عن أدوارها الأساسية.
لقد آن الأوان، وبإلحاح، لإعادة التفكير في النموذج الصحي المغربي من منطلق إنساني قبل أن يكون تقنيًا أو إداريًا. فالصحة ليست مجرد خدمة تُقاس بالأرقام، بل حق أساسي يمس كرامة الإنسان في لحظات ضعفه، حين يشتد عليه المرض ولا يجد سريرًا في المستشفى، أو حين تُترك أم في أروقة الولادة تنتظر فرجًا قد لا يأتي، أو حين يفقد طفل حياته بسبب لسعة عقرب أو تأخر في الإسعاف.
إن إصلاح القطاع الصحي ليس ترفًا، بل التزاما أخلاقيا، وواجبا وطنيا، وشرطا ضروريا لبناء ثقة المواطن في دولته. فلا كرامة بدون صحة، ولا مواطنة بدون كرامة.
الكاتب : محمد الطالبي - بتاريخ : 10/07/2025