معارك مولاي المهدي العلوي في الدفاع عن الصحراء وفلسطين 2/1

طرحت مشروع قرار على مجلس الأمن لإدانة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المسجد الأقصى، صوت لفائدته 14 صوتا، ليلجأ ممثل الولايات المتحدة الامريكية للفيتو، مما اعتبر، حينها، نجاحا للدبلوماسية المغربية والعربية، استحق تهنئة خاصة من الوفد الأمريكي، الذي أثنى، بالخصوص، على منهجية تحضير مشروع القرار، وكان يمثل الجانب الإسرائيلي سفيرهم لدى هيئة الأمم المتحدة “بينيامين نتانياهو”.

يحكي الراحل مولاي المهدي العلوي، في كتابه “مولاي المهدي العلوي.. أحداث ومواقف”، أن عبد الرحيم رحمه الله، اتصل به بعد هزيمة 1967، وطلب منه أن يكون تحت تصرف الفلسطينيين الذين سيقدمون إلى باريس لمساعدتهم على التعرف على الأحزاب السياسية الصديقة، وعلى الصحافيين الذين تربطهم علاقة طيبة بحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لعرض قضيتهم والتعريف بها.

وقدم مولاي المهدي بداية علاقته بالفلسطينيين على النحو التالي:

“هكذا قدم أول وفد- استقر بعدها  بباريس-  برئاسة المناضل عبد المحسن أبو ميزر، الذي كان آنذاك عضواً في المجلس الإسلامي الأعلى الذي كانت من أبرز مهامه الحفاظ على القدس من محاولات التهويد، كما كان عضوا قياديا في منظمة التحرير الفلسطينية، ناطقاً رسمياً باسم اللجنة التنفيذية لهذه المنظمة، وعمل رئيساً لدائرة العلاقات القومية في دمشق. وكان عضواً في المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وناطقاً رسمياً باسمها في بيروت، كما كان عضوا بالمجلس الوطني الفلسطيني، ورئيساً للجنة الفلسطينية للسلم والتضامن، ونائب رئيس منظمة التضامن الأفرو-آسيوي، وممثلا لمنظمة التحرير في لجنة القدس المنبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1974، وبعد عام 1985 عين عضواً في قيادة جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني، ومسؤولاً عن العلاقات السياسية والخارجية فيها. توفي بدمشق). وكنت سندا للوفد للتعرف على الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي الموحد، بل إن أعضاء الوفد الفلسطيني حضروا معي مؤتمر الحزب الاشتراكي الموحد PSU.

بعدها توجهنا إلى بلجيكا للتعرف على الحزب الاشتراكي هناك، وعلى بعض النقابيين ببروكسيل. ثم  ذهبنا إلى إيطاليا وتعرفنا آنذاك على أحزابها، وكان لحركة “فتح” في هذا الوقت ممثلها في روما. هكذا توطدت العلاقات بين اليسار الإيطالي والحركة الوطنية  الفلسطينية.

ولن أنسى أنه في سنة 1969 – إذا لم تخني الذاكرة – نظم الفلسطينيون ندوة دولية، ضمت شخصيات عالمية باتفاق مع السلطات المصرية. وقد شاركت فيها رفقة الأخ عبد الرحيم والأخ عبد الرحمن اليوسفي، وأتذكر أنه كان من بين الحضور “جان دانييل” من Le Nouvel Observateur  وشخصيات من الحزب الشيوعي الفرنسي وكذلك المستشرق المعروف “جاك بيرك” Jacques Berque، الذي دفع بالاستشراق كعلم وخطاب إلى استيعاب بُعد الميدانية، بطريقة أوسع وأعمق مما فعله مجايلوه، كما كان مناصرا للقضية الفلسطينية، وكان يقول: “إني لم أر أي تبرير معقول لعقاب العرب على الجرائم الهتلرية، كما لم أرجحه لإقامة حركة توسعية في الأزمنة الحاضرة على ذكريات توراتية”.

ترأس هذا الاجتماع نائب الرئيس المصري محمد أنور السادات، ولم يمنع هذا من حضور الرئيس جمال عبد الناصر في بعض اجتماعاته، وكانت فرصة لتحيته والسلام عليه من طرف الوفد المغربي. هذه التظاهرة كانت ناجحة بكل المقاييس. وشجعني هذا الأمر على الارتباط أكثر بقياديي منظمة التحرير الفلسطينية، أذكر من بينهم أبو عمار وأبو إياد وأبو جهاد. وجرت العادة عند اجتماع كل دورات المجلس الوطني الفلسطيني، أن أكون حاضرا ومن بينها الدورة التي استلم فيها الزعيم ياسر عرفات قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.

بعد عام 1969، باتت المنظمة تمثل فعلا كل الشعب الفلسطيني بتياراته المتعـددة ـ القومية واليسارية والوطنية ـ أما الفلسطينيون المنضوون في أحزاب دينية، وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي،  فكانوا بعيدين عن الانشغالات الوطنية حيث كان لهم مشروعهم الإسلامي الخاص بهم، كما أنهم كانوا رافضين للانخراط في العمل الفدائي، بالإضافة إلى خلافهم مع الأنظمة العربية وخصوصا نظام جمال عبد الناصر.

ومن هذه الصفة التمثيلية لم تغلق منظمة التحرير أبوابها أمام أي فلسطيني أو فصيل فلسطيني يسعى للنضال من أجل التحرير، بل ذهب ميثاق المنظمة أبعد من ذلك، معتبرا بأن أي فلسطيني هو تلقائيا عضو في المنظمة، وهو أمر قد يبدو متناقضا مع مبدأ حرية الانتماء، ولكن يمكن تفهم هذا الأمر إذا عرفنا بأن المنظمة لم تضع شروطا للانتماء لها، حيث نصت المـادة 4 من الميـثاق عـلى أن: “الفلسطينيون جميعاً أعضاء طبيعيون في منظمة التحرير الفلسطينية يؤدون واجبهم في تحرير وطنهم قدر طاقاتهم وكفاءاتهم والشعب الفلسطيني هو القاعدة الكبرى لهذه المنظمة”. وبهذه الصفة التمثيلية الشمولية ليس للأحزاب فحسب، بل للشعب كله أصبح المجلس الوطني الفلسطيني وكما جاء في النظام الأساسي للمنظمة، هو الهيئة التمثيلية التشريعية العليا للشعب الفلسطيني بأسره داخل فلسطين وخارجها، والذي يعتبر حسب نص المادة 7- أ من النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية هو السلطة العليا لمنظمة التحرير، وهو الذي يضع سياسة المنظمة ومخططاتها… ويختص بكافة المسائل الدستورية والقانونية والسياسية العامة المتعلقة بالقضايا المصيرية للشعب الفلسطيني وكل ما يتعلق بمصالحه الحيوية العليا. وبهذه الصفة التمثيلية تمكنت المنظمة من الحصول على اعتراف عربي ودولي بها عام 1974 فأصبحت عضوا في جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من المنظمات الإقليمية، وعضوا مراقبا في هيئة الأمم المتحدة، وأصبح لها أكثر من مئة سفارة ومكتب تمثيل في العالم. بل إنه على أثر الصدامات الدموية بين أهالي فلسطين المحتلة وقوات الاحتلال في “يوم الأرض” 30 مارس 1976، صدر بيان عن فلسطينيي الخط الأخضر يعلنون فيه أن المنظمة تمثلهم أيضا.

بالرغم من كل ملابسات وتحديات تأسيس المنظمة، إلا أنها استطاعت أن تخرج القضية الفلسطينية من تحت الوصاية العربية، وأن تعبر عن الهوية الفلسطينية الجامعة لكل التيارات، حتى وإن وجدت خلافات عقائدية أو أيديولوجية بين فصائل المنظمة، فإن قيادة المنظمة والحرص الوطني من الجميع كانا كفيلين بتجسير الفجوة بين المواقف وإدارة الخلافات بطريقة لا تسيء إلى القضية الوطنية”.

وأضاف: “استمر هذا الاتصال لمساعدة إخواننا الفلسطينيين انطلاقا من باريس، حيث حصل أن حضر إلى العاصمة الفرنسية الأستاذ الجامعي الدكتور عصام السرطاوي مكلفا بمأمورية الاتصال باليهود الأوروبيين لعرض القضية الفلسطينية عليهم ودراسة إمكانيات التعاون معهم. وكان الرجل بحكم ثقافته العالية، وخبرته السياسية، وطلاقته في استخدام اللغتين الإنكليزية والفرنسية، نشيطا بتوجيه من القيادة الفلسطينية على مستوى الحوار مع “قوى الديمقراطية والسلام في اسرائيل”، وخاصة منها حزب راكاح “الحزب الشيوعي الإسرائيلي” وهو حزب “إسرائيلي” غالبية أعضائه من أبناء الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، الذين وجدوا فيه ملاذاً لهم للتعبير عن مواقفهم.

ورغم إخلاص الرجل لقضيته وسمعته الطيبة في باريس، فقد طالته أيادي الغدر وقتل أمام أعيننا تقريبا أنا وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان  اليوسفي في مدينة لشبونة بالبرتغال، قتل دقيقة قبل نزولنا من السيارة التي كانت تقلنا للمؤتمر السنوي السادس الذي كانت تعقده الأممية الاشتراكية. حيت  أنهت رصاصات أطلقت من مسدس كاتم للصوت في قاعة فندق “البوفيرا” بلشبونة، حياته الزاخرة بالعطاء في العاشر من أبريل 1983. وكان ممثلًا لوفد “منظمة التحرير الفلسطينية” في المؤتمر، إذ كانت الاشتراكية الدولية قد أعلنت موافقتها على حضور منظمة التحرير الفلسطينية مؤتمرها في البرتغال بصفة مراقب.

وبعد ذلك، استمر عملي  مع الإخوة الفلسطينيين إلى حين عودتي إلى المغرب.

وقد دعيت، بعد مؤتمر القاهرة السالف الذكر، من طرف الإخوة في حركة “فتح” لزيارتهم في الأردن، واستقبلت حينها من طرف الإخوة القياديين بمعية صحافي من جريدة الحزب الشيوعي الفرنسي L’Humanité وصحافية منJeune Afrique   اللذين انتدبا لمعاينة عملية في الحدود بين الأردن وإسرائيل.

وخرجت من زيارتي بانطباع سيء، عما شاهدت وأنا في الأردن. فما كان يحدث آنذاك ينذر بعاصفة قادمة بين الأردنيين والفلسطينيين. وهذا ما حصل لاحقا فيما سمي بأيلول الأسود سنة 1970.

كنا في الشوارع، ونحن في السيارة، عرضة لتوقيفات ومساءلات  متكررة، إما من الشرطة الأردنية أو من القيّمين على الحواجز التي تقيمها التنظيمات  الفلسطينية داخل عمان. ومن الأمور التي شاهدتها عيانا أن ملصقات تحمل صور قادة الحركة الشيوعيين، كماركس ولينين وستالين وغيفارا، تُلصق على حيطان  المساجد التي تقيم المنظمات اليسارية أمامها تجمعات بعد صلاة كل جمعة. وهذا السلوك هو، في حقيقته، استفزاز للمشاعر، واختلاق لعداوة تأصلت بين الفلسطينيين والقيادة الأردنية، وكان من نتائجها الحرب التي اندلعت بين الطرفين سبتمبر/أيلول 1970، والتي كانت مأساة للشعب العربي ولحركة التحرير الفلسطينية.

وبحكم علاقات الود التي تربطني بقادة عدد من التنظيمات، دعيت من قبل منظمة التحرير الفلسطينية لحضور أشغال الدورة الاستثنائية للمجلس الوطني الفلسطيني، أواخر شهر غشت 1970، التي كانت قد عُقدت، لأول مرة، في عَمان قبيل مأساة “أيلول الأسود”، فكانت فرصة للتواصل مع عدد من ممثلي الأحزاب والتنظيمات والشخصيات المستقلة الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، إلى جانب وفد الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني، برئاسة سيدي بوبكر القادري، رحمه الله.

قبل هذه الرحلة، كنتُ قد انطلقتُ في رحلة أخرى إلى رومانيا لتمثيل الحزب في أشغال مؤتمر الحزب الشيوعي الروماني، حيث كنتُ حريصا على أن ألتقي بعدد من القيادات الحزبية الصديقة، بقدر حرصي على الاجتماع بالأحزاب التي تتعاطف مع الأطروحة الجزائرية المساندة للبوليساريو لتوضيح الأمر، مما أزعج ممثل الجزائر السيد محمد يزيد، وقد كان يجلس بجانبي ونحن ننصت لخطاب الديكتاتور “تشاوشيسكو”، الذي دام قُرابة ثلاث ساعات، تمت مقاطعته خلالها بـ”جوقة التصفيقات” لأكثر من مائة مرة على الأقل، مما منحني الانطباع، حينها، بأننا إزاء سيف مسلط على رقاب الرومانيين، لابد من أن يأتي يوما ليردوه على صاحبه.

معاركي الشخصية في الدفاع عن القضية الفلسطينية يعرفها من جايلتهم من مسؤوليها الكبار، وفي طليعتهم المجاهد الشهيد ياسر عرفات رحمه الله، ويشهد بها أيضا الأصدقاء الذين حضروا معي بعض أطوارها في نيويورك، إبان تمثيلي لبلدي في هيئة الأمم المتحدة.

وهنا أذكر إحدى معاركنا في مجلس الأمن حين طرحتُ مشروع قرار على مجلس الأمن لإدانة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المسجد الأقصى، وكان يمثل الجانب الإسرائيلي سفيرهم لدى هيئة الأمم المتحدة رئيس الوزراء الحالي “بينيامين نتانياهو”.

طرحت الموضوع على الملك الحسن الثاني، بعد أن كنت قد حشدت التأييد للمشروع، وتناولت الكلمة في الجلسة، ولاحظت أن ممثل إسرائيل كان يتحدث بصوت عال للتشويش على كلمتي، فتوقفت هُنيهة، حتى يستتب الصمت، فأواصل كلامي، وقد كنت متأكدا من أن معي 14 صوتا من مجلس الأمن لصالح مشروع القرار، مقابل الصوت الأمريكي الذي كان سيلجأ حتما للفيتو.

في هذه اللحظة، أتى من يطلبني من مساعديَّ، فاستأذنت بالغياب للحظات لأرد على الهاتف، فإذا بي أجد نفسي مع الملك الحسن الثاني، الذي قال لي بأن الرئيس الأمريكي “رونالد ريغان” ووزير خارجيته ” جورج شولتز”، أبلغاه رسالة مفادها أنهم يطلبون إرجاء التصويت على مشروع القرار لثلاثة أو أربعة أيام، فنبهني إلى أنه إذا كنت متأكدا من صمود من معي من الأعضاء، فيمكنني المضي قُدما في الأمر، وإذا لم يكن كذلك، فعلي أن أمنح نفسي فرصة لتعزيز موقفي.

أكدت للملك موقفي، فرد علي بالقول:” الله يعاونك”. وكان أن صُوِّت بالفعل لفائدة القرار بـ 14 صوتا، ليلجأ ممثل الولايات المتحدة الامريكية للفيتو، مما اعتبر، حينها، نجاحا للدبلوماسية المغربية والعربية، استحق تهنئة خاصة من الوفد الأمريكي، الذي أثنى، بالخصوص، على منهجية تحضير مشروع القرار.

 


بتاريخ : 10/07/2025