أصداء بأصوات ثقافية .. هل في المغرب شعراء؟، وهل عندنا شعر؟

 

هو سؤال مُلْغِز وملغوم، بيِّن وواضح في الآن نفسه. سؤال مفتوح على المناوشة والمشاكسة، والتشكيك بغاية الدفاع عن ذاك الوجود الفعلي الواقعي أو المفترض. لأن المسألة، في الأول والأخير، تقوم على الرأي المحسوب، والموقف المتزن، والمقترب العلمي الموصول بالبحث والتنخيل، والمقارنة والموازنة، ووضع المعيار على المعيار: معيار الشعر كما بُنِيَ، سابقا، وَفْقاً لرؤية وتوجه وتصور، واستلهام من المتون المدروسة في فترات متفاوتات خاضعة لسؤال الثقافة والفكر واللغة، والدين، وغيرها. وعيار آخر يتمدد ويتجدد بحسبان النظر الإبستيمي، والحفر المعرفي، والتحول العرفاني والبرهاني، والبياني. ما يعني أن الشعر لا يثبت على حال، ولا يظل على سمت بعينه، ولا يستكين إلى بناء وتركيب وتخييل كما قعده آباؤنا الروحيون، وإلا فقد روحه وجوهره اللذان يقومان ، بالأساس، على أرضية عطشى لا تَنِي تبحث عن أمْوَاه وأنساغ، مرورا بالسراب، وأقواس المطر، وعمائم السحب المنذرة بالبروق والرعود. ومن ثمة، يعسر ـ تماما ـ إطلاق الشعرية في مفهومها الياكُوبْسوني على نوع مخصوص من الإبداع الشعري، ولْيَكنْ، مثلا، الشعر العمودي. كما يعسر الكلام عن الشعرية الكامنة والحافة بالشعر التفعيلي دون قصيدة النثر، والعكس بالعكس. إذ أن الشعرية: الجمرة الملتهبة التي ترمي بشرر، وتتوهج كعين نمر الشاعر بْلاَيْكْ في الليل الأليل، توجد حيث يوجد الشعر، أي حيث توجد اللغة مكسوة بريش طائر السيمورغ، وعارية إلا من بياضها الناصع، وسوادها اللاذع. وفي ذلك فليجتهد المجتهدون، وليتَقَصَّ أغوارَها ـ بحثا عما يَفْتِنُ فيها ـ النقاد والدارسون. فلا معنى ـ في تقديري ـ للكلام عن شعر يحمل رسالةً، عن شعر دَعَوي، فالدَّعَويُّ كالمنظوم سِواء بسِواء، زادُ الشعر فيه ضئيلٌ إنْ لم يكنْ معدوما جملة وتفصيلا. ولاَ جدوى من وراء الكلام عن شعر موزون ومقفى يدل على معنى، فهذا النوع من « الشعر»، أصلح للشعر التعليمي الدّيدَكْتيكي، بل أصبح في خبر كان، ولم يعد دالا على العصر، وكيف يدل عليه، وهو لا يدل حتى على نفسه بوصفه شعراً؟.
الشعر فينا يطور لغته، ويموقع نظامه التلفظي المخصوص، ويمتشق جمرته، ويمتطي خياله المتوثب، ويصفق مترحلا من دالٍّ إلى دالٍّ، ثم يَهْدِلُ، أو يَعْدِل، أو يصهل باثا لوعتَه، حزنَه وفرحَه، دهشتَه وذهولَه، قلَقه وطمأنينَتَه، مُوَقِّعا رقصتَه الذبيحة، هازّاً أعطافه مُدَوَّراً أو مُشَذَّراً، أو مُسَوَّراً بشوك الورد، ودم السياج.
القوالب قوالبُ، والشعر شعرٌ، لأنه اللغة العليا، الشاهقة السامقة، الجارحة والناعمة في آن، الماتعة والساعية إلى رَجِّ أركان النفس والذات والجموع. أما القوالب فهي أردية توضع بعد أن تستويَ اللغة شعراً، وتنصهرَ في أتُون الجمال والجلال، وفُرْن الإبداع والابتداع، وقدسية الملكوت، وطين الناسوت. وعليه، فإن صراع الأشكال الشعرية الثلاثة، واصطفاف الناس بين منتصر لهذا الشكل من دون ذاك، ما هو إلا مضيعة للجهد والعقل والقلب والوقت. إذ الصراع ينبغي أن ينصب على حضور الشعرية ضمن ذلك الشكل الإيقاعي من عدمه.
لقد حسم الغربُ وغير الغرب، الأمرَ، ولم يعد النقد المتابع يثير أهمية الشكل الشعري الذي صبَّ فيه الشاعر شعره، بقدر ما أضحى مهجوساً بما تحقق من شعرية في الشعر، بمنأى عن وزنِه العروضي، أو خلُوِّه منه.
ولا غَرْوَ، فإن الشعرَ موجود في القصائد الشعرية التي نقرأ والتي تغزونا في شبكات التواصل الاجتماعي، وفي المنابر الصحفية والإلكترونية، وعبر المجاميع الشعرية المطبوعة. لكن بأي نسبة وجرعة ومنسوب؟. ذلكم هو مربط الفرس.
وإنه لسؤال يعيدنا إلى العنوان بداهةً: هل في المغرب شعراء؟. وبالتداعي والتراسل: هل في العالم العربي شعراء؟. وإذا كان الجواب بنعم، فكم عددهم؟، وفي أي حقبة زمنية هم مركونون؟، أفي الستينات من القرن الفائت؟ أم في السبعينات، أم في الثمانينات؟ أم في القرن الحالي، القرن الحادي والعشرين؟.
ولنا أن نسارع إلى القول بأن الشعر قليلٌ، والشعراء كثيرٌ. لكننا لا نذهب مذهب الذين يقولون بأن عدد الشعراء في المغرب لا يتعدى العشرة، وفي أحسن الحالات: العشرين.؟
وأنه لا يوجد مئة شاعر في العالم العربي برمته، علما أن ساكنته تربو على، أو تقترب من 400 مليون عربي ؟.
وإذاً، سيكون صادما القول بأن بلد المليون شاعر الذي هو موريطانيا، ليس سوى سَحْتٍ وَنَحْتٍ وَإفْكٍ، ولربما نكونُ أكثرَ صدقيَّة، وأقربَ إلى الواقع، عند توصيف هذا المليون بالناظمين لا الشعراء، ما خلا قلةً معدودةً. ثم ما هو عيار الشعر الذي نميز به الشعر من اللاَّشعر؟، ونقيس في ضوئه عدد الشعراء المفترض في بلادنا ؟.
يصعب الجواب تماما. غير أنه بمُكْنتنا المجازفة بالقول: نعم، يوجد شعراء بالمغرب لا يعلم بعدتهم إلا الله. لكن، هل يوجد شعر بديع، فاتن، جميل، هائل البناء، عميق الفكر الثاوي، رفيع اللغة والصورة والتخييل، في ما نقرأ من شعر ضمن الأشكال الإيقاعية الثلاثة: الخليلية، والتفعيلية، والنثيرة ؟.
وهل دَرَى الشعراءُ أن الشعر في حَدِّه الجامِعِ، هو مُغامرةٌ باللغة في اللغة، ووَعْيٌ بها، ورؤيا تتكيءُ على ثقافة كثيفة ومشعة؟
مرة أخرى، بصيغة أخرى: هل في المغرب شعر؟. ما نوعيته، ما إضافاته؟، ما مداه؟، ما أثره وتأثيره؟. هل يُتَلَقَّى التلقي المطلوب والمرغوب والمنشود؟. وكيف السبيل إلى معرفة ذلك؟ عن طريق أيّ استقراء؟، أيّ استبيان؟،أيّ استمزاج للرأي ؟.
تلك هي الأسئلة الشائكةُ الكبرى، وذلك هو السؤالُ الكبيرعلى حد تعبير وليامْ شكسبير: that is the question. !


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 11/07/2025