يعتبر رولان بارت من بين أعمدة الكتابة النقدية والنقد الأدبي المعاصر في فرنسا في القرن الماضي و المتشبع بالفكر اليساري والبنيوي الفرنسي ومعاصرته لثورة الطلبة سنة 1968، إلى جانب ميشيل فوكو والتوسير وجيل دولوز والفيلسوف الوجودي جون بول سارتر. كما ساهم في تأسيس نقد أدبي جديد اعتمادا على مقاربة بنيوية ولسانية، معتبرا الإنسان كائنا لسانيا. يفكر ويكتب ويتواصل باللغة بأبعادها الرمزية ومقاصدها المتعددة. تجعل النص متعدد المعنى والمضمون، يفترض تعدد القراءات والتأويل، ما جعله عرضة لنقد شرس من طرف النقاد الكلاسيكيين والمحافظين وعلى رأسهم ريمون بيكار.
وسيؤسس رولان بارت مشروعه النقدي اعتمادا على تحليل ونقد وتفكيك النصوص الكلاسيكية بأدوات وتصور نقدي جديد. يتوخى دراسة النصوص الأدبية دراسة لغوية وسيميائية، للكشف عن أبعادها الدلالية وباعتبارها تعبيرا غير مباشر عن الواقع، تتميز باستقلالية نسبية تجعل من اللغة الأدبية موضوعا للدراسة والتحليل.
1. التصور النقدي عند رولان بارت
ينتقد رولان بارت في كتابه “نقد وحقيقة “[1] الأدب والنقد الكلاسيكي، معلنا عن موت المؤلف وتفكيك دوره ومركزيته وإعطاء أهمية للنص في علاقته بالقارئ. وقد تعرض بارث لانتقادات وهجمة شرسة من طرف النقاد الكلاسيكيين والتقليديين في فرنسا وعلى رأسهم ريمون بيكار الذي مثل نموذج الناقد الكلاسيكي المحافظ والرافض لكل ما هو جديد. وسيساهم البحث النقدي لرولان بارت في تأسيس نقد لساني جديد يعتمد على دراسة اللغة الأدبية باعتبارها نسقا رمزيا وتعبيريا يشكل هوية وبنيات النص الأدبي الذي يفترض الدراسة والتحليل والتفكيك من طرف القارئ.
وقد ركز رولان بارت على أهمية اللغة كأداة للتعبير والتحليل والتفكير، لكن أيضا موضوعا لدراسة النص الأدبي ومضامينه المركبة. فساهم بذلك في تطوير الوعي النقدي وتحديثه وتحريره من جمود الدراسات الكلاسيكية ومعياريتها التي عملت على تحنيط الإبداع واختزاله بشكل يلغي تعدد القراءات وأهميتها في دراسة النصوص الأدبية واختزال النص وما يحمله، إنتاجا وتفسيرا إلى المؤلف. فكان موقفه النقدي من المؤلف هو إلغاء سلطته على النص وإعادة الاعتبار لهذا الأخير في التعبير عن نفسه، بتعدد خطاباته وبلغته الأدبية وجماليته في علاقته بالقارئ الذي بدوره يسترجع دوره الريادي بفهمه وتأويله وحكمه عليه. يقول بارت عن المؤلف:
«ولذا فإن صورة الأدب التي نستطيع أن نقف عليها في الثقافة المألوفة، قد ركزت بشكل جائر على المؤلف، وشخصيته وتاريخه وأذواقه وأهوائه… ثمة صوت دائم لشخص واحد، هو صوت المؤلف الذي أدلى بمكنونه.»[2]
في هذا السياق، يعتبر رولان بارت أن اللغة هي التي تتكلم في النص الأدبي وليس المؤلف، فتصبح الكتابة تعبيرا عن هذه اللغة. كما يأخد القارئ مكان المؤلف لقراءة النص قراءة إبداعية في غياب كاتبه، وخصوصا مع تطور وتغير السياق الزمني والمكاني والسوسيوثقافي. ويضيف: “إننا لنعرف الآن أن النص ليس سطرا من الكلمات، ينتج عنه معنى أحادي. ولكنه فضاء لأبعاد متعددة، تتزاوج فيها كتابات مختلفة وتتنازع، دون أن يكون أي منها أصليا: فالنص نسيج لأقوال ناتجة عن ألف بؤرة من بؤر الثقافة.”[3]
2. نقد الكتابة الأدبية الكلاسيكية
يقول رولان بارت: “من الممكن إذن رسم مخطط لتاريخ لغة الأدب يختلف عن تاريخ اللسان أو تاريخ الأساليب، ولكنه تاريخ علامات الأدب فقط. ويمكن الجزم بأن هذا التاريخ الشكلاني يبين بطريقته الواضحة، علاقته بالتاريخ العميق. ولا جدال في أن الأمر يدور حول علاقة يمكن لشكلها أن يتبدل مع التاريخ نفسه. وليس ضروريا اللجوء إلى حتمية مباشرة للإحساس بحضور التاريخ في مصير الكتابات.”[4] هذا يدل أن اللغة الأدبية والإبداع الأدبي يدخل في علاقة جدلية مستمرة، لكن غير مباشرة مع التاريخ، وإعادة صياغة الواقع بطريقة مختلفة وإبداعية تعبر عنه وفق تصور المبدع للكتابة في علاقتها بالواقع والوجود السوسيوثقافي الذي يتفاعل معها.
بالإضافة إلى ذلك، ينتقد بارت الأدب الكلاسيكي الذي انصرف للاهتمام بالكتابة الأدبية كشكل وزخرفة على حساب المضمون، بحيث يقول: ”لم يستطع الفن الكلاسيكي أن يشعر بنفسه كأنه لغة، فقد كان لغة ما. أي أنه شفافية وتداول بلا توقف، والتقاء مثالي لفكر كلي مع علامة زخرفية بلا عمق ولا مسؤولية، وكان سياج تلك اللغة اجتماعيا وليس طبيعة.”[5]. لقد تم اختزال الأدب إلى صناعة زخرفة مثل صناعة الخزف أو الحلي، يقول بارت، على حساب الموضوع وخاصة عند مالارميه. فعرفت الكتابة تحولات يجملها الناقد بقوله:
”كانت الكتابة في البدء موضوعا للتأمل، ثم موضوعا للفعل… وبلغت اليوم تحولها النهائي وهو الغياب. الغياب داخل هذه الكتابات المحايدة التي ندعوها هنا “الكتابة في درجة الصفر»[6].
ويضيف بشكل أوضح أن هذا النمط من الكتابة هو تعبير عن أزمة الوعي البورجوازي وتمزقه في التعبير عن ذاته: “الحلم بكاتب دون أدب. إن الكتابة البيضاء – كتابة كامي أو بلانشو أو كايرول مثلا، أو كتابات كينو المحكية- هي الحلقة الأخيرة من آلام كتابة تتبع خطوة خطوة تمزق الشعور البورجوازي.”.
في هذا السياق، يرى بارت: “اللسان قبل الأدب، والأسلوب هو ما بعده تقريبا، فالصور والإلقاء والمعجم تولد من جسم الكاتب وماضيه لتغدو شيئا فشيئا آليات فنه.”[7] وإذا كان الكلام اللغوي يشكل بنية أفقية فإن الأسلوب يتخذ شكلا عموديا وكثافة لغوية ينحت عميقا في التعبير والمعنى ليصبح سرا دائما يتطلب التحليل والتفكيك والنقد. الأسلوب هو ضرورة تربط الكاتب بلغته حيث يجد ألفة التاريخ. كما أن الكتابة تأخذ مكانها بين اللغة والأسلوب. ويؤكد الناقد أنه مهما كان الشكل الأدبي، فإننا نجد فيه اختيارا عاما لنغمة أو صفة لروح المجتمع، ليعبر الكاتب عن تفرده بوضوح، لأن ها هنا موضع التزامه. فتصبح الكتابة فعل تضامن تاريخي.
وقام رولان بارت بمقاربة تحليلية للأدب الكلاسيكي شعرا ونثرا فلاحظ ارتكازه على الصنعة والزخرفة بدون عمق بحيث تتخذ اللغة الأدبية منحى أفقي ويعتبرها: “لا تكاد تكون علامة على شيء… ولا تغوص على عمق الحقيقة الداخلية المتصلة بغايتها اتصالا جوهريا. فما أن تلفظ كلمة حتى تتطلع نحو كلمات أخرى ، بحيث تشكل سلسلة سطحية المقاصد.”[8] إن الشاعر الكلاسيكي لا يبتكر كلمات جديدة أكثر كثافة أو إشراق، بل مهمته اتباع القواعد القديمة… وصياغة الفكرة على مقدار البحر العروضي فلا تزيد عليه ولا تنقص عنه… بل تتراص على السطح خاضعة لتناسق متأنق أو زخرفي. في حين تتخذ الكلمة في الأدب الحديث طابعا عموديا وتتميز بالعمق ومتعددة العلائق. ويغفو تحت كل كلمة من الشعر الحديث، يقول بارت، نوع من الجيولوجيا الوجودية حيث يتجمع المقول الكلي للإسم لا مقوله الانتقائي كما في النثر أو الشعر الكلاسيكي.
وفي تصور رولان بارت فإن تعدد الأنواع الأدبية في المعتقد الكلاسيكي هي معطيات جمالية زخرفية. تعطي أهمية للشكل الأدبي لخدمة المضمون الإيديولوجي البورجوازي. فتشكلت الكتابة البورجوازية بتعدد أنواعها خدمة للنسق البورجوازي وخطابه الأدبي والفكري. وإذا كانت الكتابة الكلاسيكية الفرنسية هي كتابة طبقة اجتماعية، فان الكتابة البورجوازية طرحت نفسها ككتابة أقلية تعبر عن الوعي البورجوازي بمختلف مدارسه بالرغم من محاولة خلخة الشكل الأدبي من طرف كل من المدرسة الواقعية والرومانطقية وخاصة مع الروائي والشاعر فيكتور هيغو.[9]