المهمشون الجدد

فريدة بوفتاس

عادةً ما يُعرَّف المهمَّشون بأنهم أولئك الذين لا يستطيعون، أو لا يرغبون في احترام القواعد والأعراف المجتمعية، وكل ما تم التوافق عليه داخل جماعة بشرية ما. ويتجلى ذلك في سلوكياتهم التي قد تبدو في كثير من الأحيان خارجة عن المألوف، بل وقد تصل إلى حد الغرابة.
ولنا في تاريخ الفكر الفلسفي، وتحديدًا في الفلسفة الإغريقية، نموذجٌ بارز يتمثل في الفيلسوف ديوجين الكلبي (Diogène de Sinope)، الذي تناقلت عنه كتب التراث العديد من الحكايات التي تؤكد رفضه لما هو مجتمعي، ونزوعه إلى العيش وفق الطبيعة.
فقد اختار ديوجين العيش داخل برميل، وبلغ به التحدي للمعايير الاجتماعية أن تبول أمام الملأ، دون أن يقيم وزنًا لما قد يُقال عنه أو لما يصدر عنه من أفعال.
ويُروى أنه حين زاره الإسكندر المقدوني، مدفوعًا بما سمعه عنه من كونه شخصية مثيرة للجدل، وقف أمامه محاولًا التعرّف عليه، فما كان من ديوجين إلا أن طلب منه ألا يحجب عنه الشمس.
لقد عرف المجتمع البشري، عبر تاريخه، العديد من الأشخاص الذين اختاروا نمط وجود مغايرًا لما هو سائد، ومختلفًا عمّا تم التوافق عليه جماعيًا. وكان من بينهم من يحملون رغبة عميقة ولا تُقاوَم في العودة إلى الطبيعة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك، ظاهرة «الخنافس» (le phénomène hippie).
ويجمع بين هؤلاء جميعًا قاسم مشترك، هو تعامل مجتمعاتهم معهم كمهمّشين، فقط لأنهم خالفوا الأعراف واختاروا طريقًا مختلفًا.
هذا النوع من التهميش يفرض علينا أن نتساءل:
هل كان المهمشون دائما يعيشون وضعية إقصاء في مجتمعاتهم، أم كانوا في وضعية كل ما يدخل في إطار الغرابة ؟
في اليونان القديمة لم يتم إقصاؤهم (ن)،لأن فعل الإقصاء كان يقع على النساء والعبيد، حيث لم يكن يسمح لهم(ن) بالمشاركة في الحياة السياسية العامة، نحن هنا أمام مجتمع لم يتداخل فيه التهميش مع الإقصاء .
لكن، جرت مياه تحت الجسر، وانساب الزمن ومعه التاريخ محملا بالتحولات الكبيرة التي غيرت وجه العالم، كما غيرت طبيعة العلاقات بين الأفراد، وأيضا أحكام القيمة داخل المجتمعات.
فهل ظل مفهوم التهميش يحمل نفس الدلالة التي أعطيت له زمن ديوجين الكلبي، أم أننا أصبحنا أمام الجديد بهذا الخصوص ؟
ألم يعتر هذا التحديد تغييرات تجعلنا نضع خانة أخرى يدخل فيها (جوهر ) تحمل عليه صفة ( محمول) المهمش؟
إن صفة المهمش أضحت تلصق بكل من لا يحفظ له المجتمع حقه في التمتع بحقوق المواطنة الكاملة، حيث إن هناك فئات عريضة لا تنال حظها من وجود كريم ولا تنعم بخيرات الوطن ( الفقراء مثلا ) ويتم إقصاء أعداد منهم (ن) رغم كل ما يخوله لهم الدستور على المستوى الاقتصادي والاجتماعي،الحقوقي، السياسي، والإنساني…
فمن المسؤول عن كل هذا الإقصاء وهذا التخلي عنهم وعن الترافع لمصلحتهم، هم من لهم حقوق طبيعية ومدنية؟
من المؤكد أن أصابع المحاسبة ستتوجه نحو الفاعلين السياسيين الذين عليهم أن يكونوا في مستوى لعب هذا الدور، بالاستجابة لانتظارات المواطن، حافظين تعاقداتهم الأخلاقية معه، ومدركين حجم مسؤولياتهم تجاه مصالحه وأيضا تجاه الوطن .
ليس عليهم أن يحيدوا عن هذا النهج والاختيار، حتى لا يلحق المواطنين الإقصاء وإلغاء المواطنة المشروعة.
إقصاء من هذا النوع وما يترتب عنه من تهميش محقق لفئات عريضة، تكون له ٱثار سلبية على مسار المجتمع ونمائه، وسيكون الفاعل السياسي قد فشل في إخراجهم من عزلتهم الاقتصادية والاجتماعية، علما أن هذا يدخل في إطار العمل السياسي الذي يمارسه .
ولقد كشف الواقع عن انزلاق كبير في ما يخص الممارسة السياسية لدى عديد ممن يزاولونها، هم من يشاركون في الشؤون السياسية للدولة، ويفترض فيهم من خلال نشاطهم السياسي التأثير في صنع القرارات السياسية التي من المفترض أن تكون في مصلحة المواطن، تلبي مطالبه وتصون حقوقه .
لكن هذه الطموحات المشروعة البالغة الأهمية نجدها لا تعرف طريقها إلى التحقق، كلما خفت دور هذا الفاعل الذي أصبح ينقاد في الغالب الأعم وراء تحقيق مصالحه الخاصة، متناسيا أنه مسؤول أمام القانون وأمامهم، هم من تم استغفالهم والتمادي في التعامل معهم على أنهم مجرد أصوات انتخابية منزوعة الإرادة والقدرة على التفكير .
جماهير تحشد في إنزالات مكثفة، تصفق، وتردد ما شاؤوا لها أن تردده، وهي لا تعي ما جرت به الركبان، خصوصا إذا لفها بعناية وتمرس، خطاب مؤدلج يوظف الديني والحماسي وغيرهما إلى درجة اللجوء أحيانا إلى المسرحة والتفكه، في عرض مسخ لما يعيشه البلد من أحداث، كان من الأولى الوقوف عندها مليا من أجل تقاسم مجرياتها مع المواطن وتحليلها بشكل يبرز كفاءة هذا الفاعل وقدرته على قراءتها والذهاب أبعد في الكشف عما ستؤول إليه، ومدى ترابطها مع ما يجري هنا في هذا البلد، وفي غيره من بلدان العالم .
هذا التهميش الذي يلحق طوابير طويلة وعريضة من المواطنين يفتح الباب أمام فرض الوصاية عليهم، والتي تلغي قدرتهم (ن)على اكتساب وعي سياسي حقيقي يخول لهم المشاركة الفعالة في صنع مصائرهم، والوقوف في وجه من يعاملهم كمجرد أدوات توظف من أجل تحقيق المصالح الخاصة لهؤلاء الذين يفترض فيهم أن يقوموا بتأطيرهم سياسيا حتى يسهموا هم (ن) أيضا في النهوض بالوطن .
لكن، وما هو باد للعيان أن هذا التهميش والإقصاء الممنهج سوف يكون من ٱثاره الملموسة إعادة إنتاج تهميش من نوع جديد، وهذه المرة سيكون المهمش هو كل فاعل سياسي لم يدرك بما فيه الكفاية. إن الممارسة السياسية لا يمكن أن تخلو من أخلاق وقيم نبيلة متجسدة من خلال علاقة الفاعل السياسي بالأفراد المجتمعيين، وأيضا من خلال مساره النضالي الذي يتحدث عنه بلغة الصدق والوفاء للمبادئ السامية التي طالما كانت منارة تقود هذه الممارسة السياسية.
ممارسة قديمة في الزمن، والتي منذ ظهور المدينة ( la cité )عند اليونان، لم تكن فقط مجالا للصراع في الأفكار والإيديولوجيات والمصالح، بل كانت أيضا مجالا للفعل السياسي الذي يبرز فيه أن ثمة من له القدرة على استيعاب واقع ما يفتأ يتحول، واقع تتداخل فيه العديد من المكونات، ويتفاعل فيه ما هو ظاهر للعيان وماهو خفي، دون ركوب الشيطنة والديماغوجية التي تكشف أن ممارسها ليس تلميذا نجيبا في ما يخص دروس التاريخ، التي كشفت أنه لا يمكن الاستهانة بالمواطنين /الجمهور، أو محاولة تضليلهم بواسطة زيف خطابات ملتهبة على اعتبار تملك الصدق والشفافية التي يفتقر لها الخصوم السياسيون، وغير ذلك مما تحفل به المشاهد السياسية المفرغة من المعنى، والتي حتما ستجعله يتعرض بدوره للتهميش، هو الفاعل السياسي غير النجيب، المسيء للممارسة السياسية النبيلة .
لكن، حتى لا يطال التهميش المطلق هذا الفاعل كنتيجة محتومة عبر العزوف السياسي، وأن لا تسحب منه الثقة ومن برامج ورؤى يعرضها بسخاء ملغوم على المواطن من خلال ما يلوكه من خطابات سياسوية تجعله يحلق خارج السرب، ينبغي عليه أن يسهم فعليا، وبكل تجرد عن سفاسف الأمور، وأيضا بكل وطنية ومواطنة، في العمل السياسي الجاد من أجل تقدم الوطن وحمايته من كل ما قد يمس به من عاديات الزمن .

الكاتب : فريدة بوفتاس - بتاريخ : 15/07/2025