متيقظ الحواس أتابع ما يجري أمامي على الشاشة؛ يدخلُ الجرّاحُ الشاب (دانييل داي لويس) إلى الحانة الصغيرة بالقرية التي يزورها زيارة سريعة، يختارُ الجلوس إلى الطاولة النائية أقصى الحانة، كلّ حواسي تتحفّز، يتحلّبُ ريقي، ويرنُّ في أذني وقع كلمة كونياك، قبل أن ينطقها، يرنو إلى الوديعة خلف الكونتوار، يزداد تحفّزي.. ثم.. لا شيء، لا ينطقُ الكلمة.. يكتفي بتحريك فمه هامساً بكلمة كونياك، مشدّداً على عضلاته الناطقة حتى تستبين الوديعة قصده.. كونياك كونياك!! ما من شك، أفسد فليب كوفمان أجمل مقطع تحمله مخيّلتي عن رواية خفة الوجود التي لا تحتمل..! أتابعُ مشاهدة الفيلم، تبدأ حواسي في الاستقرار مجدّدا، ويبدأ طعم فمي يتغيّر.. لم تكن اللّقطة بهذا السوء، ثمّ إنّ نطقه الكلمة دون إسماع صوته دفع الوديعة إلى أن ترسم ذاك التساؤل الخفيف على وجهها مرتين على الأقل.. في آخر المطاف ربما يكون تصوّر فليب كوفمان للمشهد أجمل من تصوّر كونديرا!
عندما نشاهد عادة عملاً سينمائياً على خلفية عمل أدبي، فإنّنا غالباً ما نصاب بخيبة الأمل، إذ نقف على محدودية الصورة السينمائية في تقديم خفايا العمل التي طالما تأملناه وبنيناه مع المؤلف لبنةً لبنة… بل قد نرفض منذ البداية قبول فكرة أنّ الفيلم قد ينجح في تصوير العمل الروائي.. كما قد تدفعنا خيبات أملنا المتتالية إلى الامتناع عن مشاهدة الأفلام التي تصوّر الأعمال التي نحبها.. السبب في ذلك بسيط جداً: لسنا نمتلك تصوّراً واضحاً عن ما ينبغي أن يكون عليه النقل السينمائي لعمل أدبي، عن ما يعني الانتقال من القراءة إلى المشاهدة.. ذاك أنّنا غالباً ما نخلط بين سجلّين مختلفين تماماً.. يفرضان قواعد لعب متباينة..
أن تشاهد ليس معناه أن تقرأ، معناه أن تنتقل إلى سجل آخر إلى مرجع تلقٍ آخر.. ومن هنا فإن مسألة نجاح المخرج في نقل العمل الأدبي إلى السينما أو فشله تصبح أمراً لا معنى له.. مادام الأمر يتعلق بإنتاج شيء آخر غير النص الأدبي.
ليس نجاح العمل السينمائي في مدى قربه من أصله المكتوب.. ولا في ابتعاده عنه.. قوته في انسحابه وانكفائه على ذاته بحيث يقدّم لنا شيئا كأنّه الأصل، ولكن في الآن ذاته شيئاً لا ينفك يحيل إلا على ذاته.. عمل متكامل وجد مادته الأولى في كتابة أدبية لكنها بنى نفسه في استقلال عنها وتنطّع بالنسبة إليها..
في قراءة الأثر ينبغي تغييب الأصل، جعله ثانوياً قياساً إلى الأثر ذاته.. لا يتعلّق الأمر في عمل إبداعي باقتفاء أثر النّص، كأنّ المخرج يريد تقديم الكتاب لفئة عريضة من المتلقين، لا قدرة لهم على القراءة، وإنّما يتعلّق الأمر أساساً بتجربة مختلفة، بلمسة فرادة تبني عالماً مختلفاً وتفرض إيقاعاً آخر..
من يعتقد أن ستانلي كوبريك سعى عبر أفلامه إلى تقديم نسخ عن أعمال أدبية أعجب بها واهمٌ إلى أبعد الحدود، ففي أعماله ينفصل الأثر تماماً عن أصله، ويصير العملُ في صيغته الجديدة عملاً منسحباً من تاريخه ومنكفئاً على ذاته، بحيث لا يستلزم قراءة العمل الذي شكّل مادته الخام ولا يفترض حتّى معرفة أنّها موجودة أصلاً. يبدع ستانلي كوبريك في باري ليندن عملاً متميّزاً تمام التمّيز عن الرواية كما دبّجها وليام ماكبيس ثاكراي، بل ويدهشنا بمزجه الرائع بين موسيقى كل من شوبرت وهايندل وباخ الذين لا مكان لهم في النّص المكتوب، لكنّه يطبع إيقاع العمل بموسيقاهم، بشكل يجعلنا عاجزين عن استحضار مغامرات باري لندن دون أن تتردد في آذاننا هذه الموسيقى. وقس عليه اشتغاله على لوليتا لنابوكوف أو العمل المذهل بكلّ المقاييس كلوكوورك أورِنج المأخوذ عن رواية أونطوني بورغس.
عندما يُنجز العمل السينمائي ينحت لنفسه طريقه الخاصة وتاريخه المستقل، طريق لا يمكن أن تحاكي طريق العمل الأدبي أو تسير على سيره، حتى وإن ادعت الانقياد له. لدرجة يمكن معها القول أنّ أبلغ أشكال الخيانة التي مورست على الروايات التي تمّ تحويلها إلى أفلام سينمائية هي تلك التي حاولت أن تطابق الأصل. لم يعمل عبقري التطابق فرانسيس فورد كوبولا وهو يقدّم النسخّ الأصلية عن فرانكنشتاين لماري تشيلي ودراكولا لبرام ستوكرز، سوى على طبع أعماله بميسم خاص جداً لا يمكن أن نجده عند غيره من المخرجين، ميسم يقصي التراكمات التاريخية التي ألحقت بالعمل لكي يبني نسخة موازية للأصل، نسخة كأنّها الأصل، لكنّها مع ذلك أكثر ما يخون الأصل…
قرّاء رواية العطر لزوسكايد تشلّهم الدّهشة إزاء قدرة الرّجل الفائقة على خلق شخصية مثل جون باتيست غرونوي، دون الحاجة إلى رؤية صورته كما اختارها مخرج الفيلم. ومشاهدو فيلم العطر كما صمّمه طوم تيكوير لا يستطيعون الفكاك من الدهشة التي خلّفها لديهم بِن ويشاو، المختلف جداً عن كلّ الممثلين، الذي وحده يستطيع أن يكون جان باتيست غرونوي، ولا حاجة بهم إلى قراءة رواية سوزكايند… فأين المشكل إذن؟
الكثير من الأعمال السينمائية الجميلة شاهدتها وأعجبتُ بها دون أن أقرأ الأعمال الأدبية التي بنيت عليها، ولا نية لديّ في قراءتها، شأن موسيقى الحظ لفليب هاس المأخوذ عن رواية بول أوستر.. أتمنى أني لا أخسر بقراري هذا شيئاً!
أن تشاهد… أن تقرأ

الكاتب : محمد أيت حنا
بتاريخ : 16/07/2025