في السيرة الأدبية :
إدريس الملياني : شاعر، مترجم، ناقد أدبي، روائي. نائب رئيس اتحاد كتاب المغرب. عضو بيت الشعر وعضو مجلس إدارة دار الشعر بتطوان ومراكش. جائزة المغرب في الإبداع الشعري مرتين عام 2001 عن ديوانه « مغارة الريح» وعام 2025 عن ديوانه «غمة الكمامة» . وسام ملكي للمكافأة الوطنية من درجة ضابط. أقيمت له عدة حفلات تكريمية في مدن كثيرة. حظيت تجربته الشعرية بعدة دراسات نقدية وكانت موضوعا لكثير من الأبحاث الجامعية وبعض الأعمال المسرحية والتشكيلية والموسيقية. ترجمت بعض أشعاره إلى الفرنسية والإسبانية والروسية والإنجليزية. وصدرت في عدة أنطولوجيات عربية وأجنبية. شارك في عدة مهرجانات شعرية وملتقيات ثقافية مغربية وعربية ودولية. صدرت له الأعمال الشعرية الكاملة عن وزارة الثقافة والعديد من الأعمال الشعرية والنقدية والسردة القصصية والروائية والترجمات عن الروسية والفرنسية داخل وخارج المغرب.
p ما معنى أن تكون شاعرا في الألفية الثالثة..؟
n الشاعر من دون شعر نكرة. الشاعر- الشاعر بنفسه- لا يكون شاعرا إلا بالشعر، الذي هو هويته، وإنيته، وسيرته، ذاتية وغيرية، وشهادة ميلاده وعقيدة ازدياده، وتاريخ حياته ووفاته، وكناش حالته المدنية الحامل لاسمه وصورته، وقبريته الشاهدة على هجرانه وسلوانه ونسيانه، وما جدواه لولاه، لخسر ذاته وأناه ولما ربح العالم رؤيته والكون رؤياه . وأيان كان الشاعر، لا يعبر إلا عن ظرف زمانه ومكانه، وعن أثافي ألفيته، التي ليست سوى أبياته وآياته، وهو _الشعر_ الدليل عليه والرسول إليه، وهو أثره، ولا أثر له غيره ، و « يا ليتني حجرٌ» كما ينادي قريبا على بعد محمود درويش ويرد عليه متعجبا تميم بن مقبل «ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر» ومثلما يؤكد سائلا ومجيبا زهير بن أبي سلمى «ما ترانا نقول إلا رجيعا، ومعادا من قولنا مكروراً» وكل ما يتبقى ويدوم إنما يؤسسه هو الشعر وهلم شعراً وشكراً، على حد قول معروف الرصافي :
أعرني لساناً
أيها الشعر
للشكرِ !
p هذا جميل ، لكن ماذا لو كنت غير ذلك..؟
n لو حرف امتناع لوجود معلق ماضيا وآتيا، لو كنت غير ذلك، هذا جميل، جوابا وسؤالا، وأفضل حالا ومآلا، كما قال صاحبي شاعر «الحب مهزلة القرون»الراحل عنيبة الحمري: «الشعر عذب ولكن صاحبه في العذاب» وعلى حد قول أبي الطيب المتنبي: «ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى، عدوا له ما من صداقته بد» وبتأكيد النقد القديم : الشعر نكد، بابه الشر ، فإذا دخل في باب الخير لان» ومن «سنديانة الشعراء» هذا : «المدخل : موتك جميل أيها الشاعر!» و « ماريا ريلكه بالذات هو القائل عن الشاعر ربما في إحدى مراثيه الشهيرة : انهياره ولادته الأخيرة! ومع ذلك، ما أجمل الموت في الشعر» و «لأجل ذلك بالذات، تحلو الحياة، بالشعر وحده، فقط لا غير!» و « الشعر إذن موت لذيذ، كالنوم بعد الخلود إلى الراحة من عناء عمل صعب» وكذلك القصيدة: «من يشأ الدخول إليها في زفة العريس فليقرأ على بوابة الجحيم كلمات الشاعر الأليغييري المنحوتة بيد الفنان رودان : أيها الداخلون اطرحوا عنكم كل أمل!» و «طوبى له، بعد ذلك، فكل داخل سيهتف باسمه وكل خارج أيضا : موتك جميل، أيها الشاعر! واصل طريقك الخالد نحو المطهر قربانا للشعر!».
p بهذا المعنى، ما الذي يعنيه لك الشعر..؟
n الشعر هو هذا المعنى، الذي يضفيه الشعر على الحياة ويضيفه الشعر إلى الوجود، الشعر هو عليا الحياة الدنيا، وهو دنيا الحياة العليا، والعود الأبدي إلى أول كل شيء ومنتهى كل بدء، والوعد بما لم يكن، والعهد على ما لن يكون، وأعذب الشعر أكذبه، وأكذبه أعذبه، كقبلة الجملة ما أحلاها في المكتوب،وأعلاها في المكذوب، وأغلاها في المشروب وأجلاها في المحجوب وأشهاها في المرغوب، وأبهاها في المرهوب، وما أبعد الحقيقة وما أقرب الطريق إليها، وما أسعد المرء بالمكان الذي ليس فيه وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، ولا مؤمل غير ما لا ينال ولا مرتجى إلا المحال وعليه المعول والموئل إليه، وأعز ما يطلبه الشعر يعجز عنه الدهر ويظل باحثا عنه عبثا وساعيا إليه سدى وهو حتى هنا والآن وأمس وغدا لا يزال سائدا على الأرض وفي مقبل أيامه ومدبر أحلامه وعلى نحو ما جاء في إحدى قصائد آخر ديوان لي: « كما لم يكن أبدا»:
هو الممكن المستحيلُ،
من الناس للناسِ،
والمرتجى والمؤملُ:
منسي!».
p القصيدة..؟
n القصيدة والقصيد، زوج بهيج، من عسل الألوان وشهد الكلمات، وأريج مزيج، من ورود الأرض وأزهار السماء، وهنا الوردة فلنرقص هنا، و»هنا طاح الريال هنا نركزو عليه»، ولم لا نشطح عشقا وشوقا بلهيب الصبابة والوجد، الروحي المادي والمادي الروحي، على وقع إيقاعك قاعك، وعينك ميزانك، وأذنك وزنك، من دون تكسير ميزان ذهب أو خشب، ومن غير غمز، بعين حسد، ولمز بيد، وطعان جبان، وهمز بلسان حقد، حاد طويل، وميز عنصري، وتحيز عاطفي، وتعصب طائفي شعري أو نقدي، لشكل عمودي وتفعيلي وإيقاعي، على قدر وحد وحظ سواء بالاحترام لديموقراطية الأشكال والالتزام بحرية الخيارات والامتثال لنظام المواطنية الشثرية، الشعرية والنثرية، المعروفة عند الشاعر الفرنسي فرانسيس بونج باسم proême «البروئيم» الشعري والنثري، وعلى نحو ما جاء قديما « في ضيافة الحريق»:
من يشأ يكتبْ على الماء ومن شاء على طين بليل
من يشأ يضربْ على الدف ومن شاء على جلد الطبول»!
وجميع الناس أحرار سواء!
p قصيدة النثر..؟
n قصيدة النثر، حسناء متقلبة الأهواء، تبصر وجهها في المرآة فلا ترى شبيها لها بين كل النساء، وتغار منها عليها، وتحار بأي اسميها تنادى وأيهما أحب إليها القصيدة أم نثرها، ولها في كل يوم شؤون تحليها وشجون تجليها وفتون تخليها وفنون تخفيها ولا تبديها حتى لأهليها، ورغم أنها زينة الحياة وفتنة دنياها وعلياها فإنها لم تتغرب ولم تتعرب، ولم ترس على بر ولا بحر ولم تتخل عن التباهي والتعالي على شقيقتيها الخليليتين والتفعيليتين ولم تتحل بالتواضع الذي يعليها ويغنيها عما يشينها ولا يزينها كالمبالغة في سجعها وقوافيها التي لا تليق بإيقاعها الداخلي وقاعها الخارجي ولم تعمل بنصح معلمتها السيدة الفاضلة سوزان بيرنار القائلة لها إن حسنها وفنها ليس في «تجديدها لشكلها» وإنما في محتوى جمالها ونضالها الفكري «المتواصل للإنسان ضد مصيره أكثر من كونها محاولة لتجديد الشكل الشعري»! وحتى «الإيقاع « المزعوم بديلا عن «الوزن الوثني» فهو لديها «كثير الغموض حينما نطبقه على الشعر وعلى النثر خاصة»! وعليها بالتالي مراجعة نفسها بنقدها -ونقضها- الذاتي، بافتراضها على الأقل أن فيها ما تنتقده في غيرها وما لها لسواها، وبوفائها «لمواطنيتها الشثرية»-الشعرية النثرية- والبحث الحثيث عن البشرية والشعرية الإنسانية الكونية فيها وفي غيرها على حد وحظ وقدر من الاحترام لديموقراطية الأشكال وحرية الخيارات وحسن الجوار وفن الحوار سواء!
p والشعراء في زمنك كيف تنظر إليهم..؟
n الشعراء والشاعرات أيضا سواء على قدم المساواة وألم المواساة ضحايا وقرابين لذات المأساة والتراجيديا الإنسانية والكوميديا الكونية. و»موجع قدر الشعراء تحت كل سماء» و «الشعر ديواننا الأممي» على حد قولي في حوار و»انتظار في محطة ماياكوفسكي» وهو الشاعر «المستقبلي» الشاعر بحال ومآل الشعراء والشاعرات وجمال النضال ونضال الجمال المؤمل والمرتجى منه أن «ينقذ العالم» علي حد قول داستاييفسكي بلسان بطله «الأبله» الأمير ميشكين، ولكن هيهات هذا الجمال المسكين لم يستطع بنضاله إنقاذ نفسه ولا العالم من بؤسه وضلاله فأطلق الشاعر المستقبلي رصاصة الرحمة والنقمة على رأسه وعلى العالم من حوله. وحده الشاعر شاهد أمين على عصره وأصدق إنباء عليه وشهيد فيه زلفى وقربى لأصنام آلهة تأبى الأفول، و ما فتئ فارسا حارسا لمدن الخيام وخيام عواصم الآلام _كعنوان ديوان الشاعر الفرنسي : capitale de la douleur وحواضر الأنعام وحظائر الأنام: كأبي الفوارس عنترة العبسي يكر ويفر في كل حَراك سياسي وعراك ثقافي «ويعف عند المغنم» دون أن ينال وصال عبلة إلا طعما لعبودية جديدة.
p بهذا المعنى أنت وجه آخر للقصيدة..؟ ما رأيك..؟
n بل وجوه للقصيدة، لا يخصها إلا النظر، في وجوهها العزيزة، لا آليها من بعيد، وبحاجة أكثر للدخول إلى المدرسة والأسرة والتمتع بكامل حقوقها والتمثل الخلقي بقيمها في السلوك اليومي. للقصيدة من تلك الوجوه العزيزة العديدة وجهان جانوسيان: نضالي الجمال المنقذ نفسه والعالم كله من ضلاله المبين لو استجاب له وجمالي النضال الثقافي والسياسي الجانوسي الوجهين أيضا كما في مقال لي عن نوعيه: «السياسي الحيوي» المفيد الضروري الحاضر قوة وفعلا في أية كتابة إبداعية وتجربة اجتماعية، و «السياسي السلطوي» المبيد لجمال النضال ونضال الجمال الإبداعي والاجتماعي، وبالتالي فإن القصيدة والشاعر والآخر وجه واحد رامبوي رؤياوي يقول : أنا هو آخر! والدانتوي المطهر والجحيم المنحوت على بوابته بيد الفنان الفرنسي رودان على لسان الشاعر الأليغييري: أيها الداخلون اطرحوا عنكم كل أمل!