استيقظ لبنان والعالم العربي صباح يوم السبت على وقع خبر وفاة الفنان والموسيقي والمسرحي الكبير زياد الرحباني عن عمر ناهز 69 عاما، بعد صراع طويل ومرير مع المرض.
لم يكن وقع هذا الرحيل كأي نعيٍ عابر، بل هو وداع لصوت ظلّ لأكثر من أربعة عقود يصدح من الهامش، يفضح هشاشة السلطة، ويقلب الموازين بجملة مسرحية أو لازمة موسيقية موقعة بمرارة السخرية ونبل الوجدان.
زياد، نجل أسطورة الغناء العربي السيدة فيروز والراحل عاصي الرحباني، وهو أيضا – كما وصفه النقاد – وريث الألم اللبناني في أكثر تجلياته، الذي حوّله إلى مشروع فني مقاوم، حيث كان صرخة تارة تهكمية وتارة شعرية، تقرأ المجتمع والسياسة والإنسان بلغة لا تهادن ولا تتزيّن.
لقد اختار الفقيد، منذ بداياته، أن يرسم لنفسه دربا فنيا مغايرا، فيه من النقد والسخرية بقدر ما فيه من الحنان، ومن الغضب بقدر ما فيه من حب لناس أوجعتهم الحروب والسياسات والخذلان.
في بيان مقتضب أصدره مكتبها الإعلامي، نعت سفيرة النجوم السيدة فيروز نجلها الوحيد بكلمات اختزلت ما لا يقال، قائلة: «خسرت ابني، ورفيق مسيرتي، وصوت الناس الطيبين.» وذكرت وسائل إعلام لبنانية أن السيدة فيروز دخلت في حالة انهيار مؤقت عقب تلقيها الخبر، ما استدعى تدخلاً طبيًا عاجلاً إلى منزلها في بيروت، حيث خيم الحزن والصمت.
كان زياد الرحباني ظاهرة ثقافية متكاملة؛ كما تنطق بذلك مسيرته الفنية المتنوعة، فقد كتب، لحن، مثل، وقدم مسرحا مضادا، وعبر من خلال أعماله عن وجع الناس وهموم الشارع بصوت ساخر حاد، ونبرة لا تهادن السلطة ولا تجامل الواقع.
ترك زياد الرحباني وراءه إرثا غنيًا بمسرحيات خالدة من قبيل: «بالنسبة لبكرا شو؟»، و»نزل السرور»، و»فيلم أميركي طويل»، حيث اختلط فيها السياسي بالاجتماعي، والعبثي بالمأساوي، والساخر بالحزين.
أما علاقته بوالدته فيروز، فلم تكن مجرد علاقة أم بابنها، بل كانت شراكة إبداعية نادرة في الفن العربي، لحن لها وهي في عز ألقها، منذ أغنية «سألوني الناس» حين كان في الخامسة عشرة من عمره، ثم تابع معها في ألبومات تاريخية منحتها لونا موسيقيا جديدا في الثمانينيات والتسعينيات، مثل: «وحدن» سنة 1979، «كيفك إنت؟» 1991، «ولا كيف» 2001، و»إيه، في أمل» 2010. كما توزعت ألحانه الفيروزية على خشبات أهم المسارح في أعمال مثل: «ميس الريم»، «بترا»، و«المحطة».
منصة العزاء الأولى كانت قلوب الفنانين والمثقفين والشخصيات العامة من مختلف أنحاء العالم العربي.
وقد كتب الموسيقار مارسيل خليفة:»زياد لم يكن مجرد صديق، كان وجعي الأجمل… كان أشرس المدافعين عن الناس في أغانيهم وهمومهم. فقدنا من لم يَخف من الحقيقة، ولا من النشاز… كان أكثر من موسيقي. كان سؤالا لا يهدأ. من علّمنا أن الحزن يمكن أن يكون ساخرًا؟ وداعًا رفيق الطريق.»
ونعته الفنانة سميرة سعيد على صفحاتها الرسمية بمواقع التواصل الاجتماعي، حيث كتبت قائلة:
«وداعاً زياد… كنت دائما خارج الإطار.. عبقري استثنائي، كسر القواعد ليصنع مدرسته الخاصة».
ومن المغرب أيضا، نعى الفنان نعمان لحلو ، الموسيقار زياد الرحباني قائلا :»وداعا أيها العبقري زياد الرحباني، وتعازينا لوالدتكم الأسطورة فيروز.»
بدورها نعت الفنانة المغربية فدوى المالكي الفنان القدير زياد الرحباني، حيث كتبت في صفحتها الرسمية على فيسبوك قائلة: «رحل إنسان صادق، وفنان عبقري، ومثقف مغرِّد خارج السرب. لله يصبّر قلب والدتك فيروز.»
الفنانة المغربية سامية أحمد، هي الأخرى نعت زياد وكتبت: «رحلت يا زياد، كنت آخر ما تبقى من زمنٍ كنّا نظنه لا يرحل. ابن الرحابنة، لكنك لم تكتفِ بالإرث، بل خلقت مدرسة خاصة بك، مزجت فيها الجاز بوجع الشرق، والمسرح بنبض الناس. صوتك يشبهنا أكثر من أنفسنا، وصدقك مرآة لوطن خائف من الحقيقة. زياد، كنت الهوية التي لم تساوم، والحنين الذي لم يتجمّل. واليوم، نسأل كما سألت ذات لحن: «إيه في أمل؟»لا يا زياد، اليوم في ألم. ألم على فراقك، وعلى نهاية زمن لم يعد له وريث. لروحك السلام، ارتح الآن، فقد أبقيت لنا ما نخاف أن ننساه: أن الفن موقف، وأن الصدق لا يموت».
وقالت الفنانة نضال الأشقر: «مع زياد كان المسرح وطنًا. كان يكتب كي لا ننسى أن نحلم. واليوم رحل من كان الحلم والمرآة معا… كلما مات أحد يشبهك، قلنا لبنان يحتضر… فكيف حين ترحل أنت؟»
من القاهرة، كتب الفنان محمد منير:»زياد كان أخي في الفن والوجع، ضحكنا كثيرًا من أجل ألا نبكي أكثر. وداعًا أيها الرائع الذي علّمنا كيف نغني من أجل الإنسان لا من أجل الجوائز.»
الشاعر السوري نوري الجراح كتب:»رحل من لم يتصالح مع الرداءة. زياد كان الضمير العالي، والساخر الحزين، وذاكرة بيروت حين تظلم.»
كما نعاه الفنانون، جورج وسوف، إليسا، راغب علامة، رامي عياش، باسم مغنية، رولا حمادة، ورد الخال، عامر زيان، نعيم حلاوي وغيرهم بكلمات مؤثرة تعبر عن حجم الخسارة، بينما كتبت الكاتبة جمانة حداد: «زياد لم يكن يكتب ليرضينا، بل ليصفعنا… لكنه كان دائمًا على حق.»
ونعاه رئيس مجلس النواب نبيه بري قائلا:»اللحن حزين، والكلمات مكسورة الخاطر.»
الفنانة التونسية لطيفة عبّرت عن حزنها العميق لرحيل الموسيقار زياد الرحباني، واصفة إياه بـ»الإبداع الرباني الذي لا يُعوّض».
وفي مداخلة لها عبر أحد البرامج التلفزيونية، قالت لطيفة إن زياد كان يتفانى في عمله، ويترك بصمته في كل قطعة موسيقية، معتبرة أن خسارته كبيرة للفن العربي.
وأكدت أن ألبومًا جديدًا له سيرى النور مطلع العام المقبل، رغم وفاته، مضيفة: «سأفتقد الجمل الموسيقية التي لم يُصغِها أحد غيره. لقد رحل زياد، لكن فنه سيبقى حيًّا في القلوب.»
ونعت المطربة السورية أصالة الموسيقار اللبناني زياد الرحباني، حيث نشرت صورة تجمعه مع والدته فيروز.
وخاطبت أصالة فيروز قائلة: «سيدتي الأغلى، ساكنة بقلوبنا بأعلى وأجمل مكان، لله يرحم ابنك الفنان الكبير زياد الرحباني، ابن المجد وصُنّاع الفن البديع.»
وأضافت:»أدعو الله أن يمسح الصبر على قلبك الغالي، ويهوّن عليكِ هذه الأيام الصعبة، يا سيدة وطني، وطبيبتي، ودوائي بأغانيكِ وشموخك.»
لم يكن زياد محايدا في أي لحظة، كما تشهد على ذلك أعماله الإبداعية. لقد انحاز للفقراء، وللطبقة المهمشة، وللعمال، وللثوار، وللمخذولين من الحروب والأحزاب والانقلابات.
في زمن الاصطفافات الطائفية، اختار أن يكون يساريًا، بصوتٍ يصرخ ضد كل عنفٍ منظم، وبموسيقى تقول ما لا تقوله البيانات. قال ذات مرة:»أنا مش ضد الناس، أنا ضد اللي خربوا الناس.»
وقد قررت بلدية بيروت إطلاق اسمه على أحد المسارح الكبرى تكريمًا لمسيرته الفنية والنقدية التي لم تنكسر يوما، فيما أكدت وزارة الثقافة اللبنانية في بيان خاص، وصفته فيه بأنه:»أحد أبرز صُنّاع الذاكرة اللبنانية الحديثة»،وأنها بصدد إصدار عمل وثائقي يوثق مسيرته الحافلة..
زياد الرحباني كما رآه نصير شمة وشوقي بزيع وعقل العويط، وداع لعازف الألم ومسرحي النبوءات
وسط موجات الحزن العربي المتلاحق، ومع ضجيج الموت الذي يعلو في غزة وبيروت وباقي خرائط الخذلان، رحل زياد الرحباني في صمت ثقيل.
لم يكن هذا الغياب مجرد موت فنان، بل انهيار فصل كامل من الوعي الفني، والنقد السياسي، والمسرح الذي قاوم بابتسامة ساخرة. ولأن زياد لم يكن عاديا، فإن وداعه جاء استثنائيّا، كما عبرت عنه ثلاث شهادات مؤثرة، حملت توقيع العود العراقي نصير شمة، والشاعر اللبناني شوقي بزيع، والمبدع عقل العويط، وكلها رسمت ملامح فنان عاش على الحافة بين الوجع والإبداع.في نص شفيف يشبه نغمة حزينة على وتر مكسور، كتب نصير شمة: «وفي القلب شيء لا يحتمل». هكذا عبر عن رحيل صديقه زياد، الذي لم يكن مجرد عازف أو فنان، بل «رفيق لحن ونقاش وضحكة خافتة ولحظات صمت تعرف فيها الموسيقى كيف تتكلم حين تصمت الكلمات».
زياد، كما رآه شمة، كان يشبه هذا الشرق الموجوع، يضحك وهو ينزف، ويسخر وهو يحترق، ويعزف وهو يختنق.
رحيله وسط ضجيج الموت اليومي، بدا وكأنه احتجاج صامت ضد عالم خان نفسه، وضد صمت دولي يخجل من الضمير. وصف شمة زياد بأنه «واحد من القلائل الذين جددوا الأغنية اللبنانية لا بالتوزيع الموسيقي فحسب، بل بروحه المتمردة وبمسافة ذكية ظل يقف فيها دائما… في منتصف النزف».
الشاعر شوقي بزيع اختار أن يرى في رحيل زياد لحظة انطفاء داخلي لشخص لم يعد يحتمل «فساد البشر وعهر الحكام ونفاق الثورات». كتب بأسى: «رحل زياد لأنه رأى أكثر مما ينبغي أن يرى»، واصفا إياه بـ»الفنان الرائي»، و»العبقري الذي أنجب عبقريّا»، و»من اشتغل على فن أكثر اعتناء بالأرض وأقل اهتماما بتزيين الكارثة». استحضر بزيع أعمال زياد منذ «سهرية» إلى «شي فاشل»، واعتبرها نصوصا نبوئية، صادقة، وجريئة، تخترق الواقع دون أن تساوم. في زمن يتراجع فيه الفن أمام الضجيج، يبقى زياد، كما كتب بزيع، الحاضر الغائب، الحالم الذي استبق الكوابيس، والساخر الذي لم يعش طويلا ليرى ضحكاته تبتلعها المأساة.
أما الشاعر اللبناني عقل العويط، فكتب مرثية تحولت إلى صلاة وغضب وانكسار. قالها بوضوح: «لا نعي بعد اليوم يليق بزياد الرحباني، فكل الكلام ناقص، وكل الجمل مبتورة أمام خسارة بهذا الحجم».
لم يرثِ العويط الرجل فقط، بل رثى العبقرية والبيانو، البزق والكمان، النكتة والقفشة والمسرح والسخرية والهذيان، وحتى «ما تبقى من معنى في هذه البلاد المنكوبة بالفراغ».
اعتبر أن أعمال زياد أنها نبوءات مكتوبة على جدران وطن يتآكل.
وتوجه بكلمات حزينة إلى السيدة فيروز: «فلا تتزعزعي»، لأن من في السماء، زياد، «يحلق الآن بين الأناشيد والملائكة، وعوده لا يزال يرن، حتى في الخلود».