محمد السادس السيادة وتجديد الهوية الاستراتيجية

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
في خضم التحولات الرهيبة، التي دخلها العالم (من أوبئة وتغيرات نظامية وحروب ميدانية وأخرى اقتصادية وتكنولوجية) يتقدم المغرب بهدوء وثبات . وهو في ذلك يُزاوج بين الواقعية والمرونة في التدبير، وبين الندية والصرامة والحزم عندما يقتضي الأمر نقطة نظام في وجه من يجب أن ترفع في وجهه.
ولعله من الدول القليلة، التي توجد في محاور الاضطراب الأقصى في تقاطع مناطق النفوذ، من الشرق الأوسط إلى شمال إفريقيا، وفي حوض المتوسط وأبواب إفريقيا، الذي لم يتأثر سلبا بكل هاته التقلبات. والتناحرات، وحسابات الأضداد بينهم.
بالنسبة للولايات المتحدة، يبدأ الشرق الأوسط من المغرب، ويستمر إلى.. أفغانستان.
كما أنه بوابة حوض المتوسط، المجال الجيوستراتيجي للمنافسات والحروب وصراع النفوذ.
بالنسبة للصين وروسيا، ينتهي الشرق الأوسط عند المغرب، على بوابة أوروبا والواجهة الأفروأطلسية.. وهو في الوقت ذاته بوابة أوروبا وإفريقيا..
ومع كل هاته المعادلات المعقدة حافظ المغرب..على مصداقيته ووضوح رؤيته ومستوى العلاقة مع الفرقاء.
وليس من السهل الحفاظ على وتيرة للنمو الداخلي، والتقدم على مستوى الأدوار في الخارطة الدولية والقارية والإقليمية، في منطقة قوس التوتر فيها يبدأ من الشرق الأوسط وصولا إلى الجوار. الليبي، ومن الساحل إلى أفغانستان، مرورا بكل بقع النزاعات في القارة الإفريقية.
واضح أن الدولة التي تستطيع التأثير، لا يمكنها أن تكتفي بموضع قدم، في رقعة الشطرنج، بل لا بد لها من قوة التأثير، إن لم نقل بأن المملكة تتجاوز التأثير إلى إعادة صياغة معادلات المنطقة ( العملة الديبلوماسية المؤطرة : الانتقال من التدبير إلى التغيير )
وقد تمكنت من إقامة علاقات على مستوى عال مع الصين والولايات المتحدة، وسط طبول الحروب المتعددة، وعلاقات مع روسيا وتطويرها على قاعدة الربح المشترك بالرغم من الحسابات الإقليمية في شمال القارة وفي دول الساحل، إلى جانب الحفاظ على تراث المغرب الديبلوماسي مع الغرب الأوروأمريكي، وإقناعه بالانحياز إلى قضاياه المركزية.
حفاظه على عقلانية انحيازه الديني والقومي في الدفاع عن ثوابت المغاربة في قضايا الشرق الأوسط.. وهو ما يمكن تلخيصه بالاحترام الشامل الذي تحظى به الديبلوماسية الملكية، وتنفيذها الذكي، الذي جعل من المغرب قوة إقليمية، ذات طموح دولي، قد تترجمه مكانته داخل هيئات المنتظم الدولي في الأمم المتحدة ..
عندما نسترجع مكانتنا في نهاية وبداية القرن العشرين وتكالب الإمبرياليات ( شارل اندري جوليان شاهد على ذلك، ) ونستحضر وضعنا منذ خمس سنوات مرت، مع أقرب الدول الأوروبية إلينا، ونستحضر صمودنا وعنادنا في المحافل الدولية، سنقيس قياسا جيدا ما تحقق لبلادنا في هذا الموقع الديبلوماسي الكبير.
الموقع الجيد والجديد، لا يمكن قياسه فقط بما يتعلق بالوحدة الترابية.وإن كانت هي قاعدة الانطلاق والرؤية وهي وحدة القياس، بل ينسحب على كل جبهات العالم وفضاءاته الجيو سياسية. غربا وشرقا، وبناء على ما يقدمه المغرب اليوم..في قلب العقيدة الديبلوماسية، من حيث وضع محددات جديدة : لا عداء عسكري وقوة ضاربة، ولا عقيدة حربية، وإن كان تطوير القدرات العسكرية واستقلالية الصناعة في هذا الباب إحدى الخطوات الجبارة للمغرب : بل العمل على خلق ترابط متبادل مع شركائه لاسيما في إفريقيا. وإذا كان المغرب لا ينكر أنه مع نزعة تحررية في القارة يسعى مرارا إلى إعادة تنشيطها، فإنه مع ذلك لم يجعل منها شعارا إيديولوجيا بقدر ما سعى إلى تحويلها إلى رؤية للعالم المعاصر vision ، du monde وتحويل نقط النزاع إلى بوابات للمستقبل والفرص التنموية والجيوستراتيجية للرابحين فقط!
في مجال القوة الناعمة( الرياضة، الثقافة، والقيم، والتراث الروحي ) كما في القوة الصلبة، اقتصاديا وسياسيا، تقود الملكية المغرب نحو بناء هوية استراتيجية لا خلاف حولها.. وما زال الطموح كبيرا!
وإقامة الدليل على القدرة على بناء البديل عمَّا ظل معروضا على إفريقيا، ولن نكتفي هنا بالواجهة الأطلسية والمتوسطية فقط بل نشير إلى كل المشاريع مع الأشقاء العرب وفي أمريكا اللاتينية كما مع الاتحاد الأوروبي، من خلال إعادة النظر في طبيعة العلاقة معه( الانتقال من الشراكة المتقدمة إلى التحالف الاستراتيجي بآليات عمل جديدة).. ولا يمكن للمراقب أن يغفل كيف أن القضايا ذات الطابع التنموي صارت لها طبيعة جيوستراتيجية، لتفادي منطق الصراع، وتجاوزه عبر فتح طرق ومسالك وممرات بعيدة عن النزاع(أنبوب الغاز مع نيجيريا)
. ليس من المبالغة القول بأنه لا توجد أي نقطة في جدول أعمال العالم، من الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر إلى الاقتصاد الأزرق، مرورا بالاقتصاد الأخضر، ليس للمغرب فيها مخطط متكامل، وطويل المدى، في مشاريع تجمع حولها طموحات البلد ثم طموحات الشركاء، وفي قلب هذا العمل طور شبكة بنيات تحتية ذات أبعاد لوجستية في التنقل والسكك الحديدية والموانئ، وما زال الطموح نحو بناء هذا الأسطول البحري الذي يمكنه أن يساير طموحنا على الواجهات المذكورة، والوارد في دعوة الملك إلى هذا الورش في خطاب الذكرى الثامنة والأربعين للمسيرة الخضراء 2023)
إن البنية التحتية هاته، له وللقارة الإفريقية… ومن زاوية الجدلية التي تربط الداخل بالخارج، لم يكن المغرب ليحقق هذا الموقع المتقدم دوليا، وعلى الواجهة الخارجية بدون تقدم وقوة على المستوى الداخلي: وهذا محسوم في الجدلية التي تربط بين تقوية الداخل من أجل الفوز في سباقات الخارج وسياساته!
هناك مخطط للتنمية بكل أبعادها، توافَقَ حوله المغاربة بتحفيز من ملك البلاد، وهو يسهر على تنزيله، في احترام صارم للدستور واختصاص المؤسسات والمجالات المحددة في الوثيقة المتوافق عليها. وهناك مشروع عميق ويهم البنية الإنسانية للبلاد تحت عنوان عريض هو الدولة الاجتماعية .
إلى ذلك، لم يعود الملك شعبه على لغة الخشب والاكتفاء بتعداد المنجز، بل هناك نبرة صراحة ووضوح دائمة في خطب جلالته وتحركاته، قوامها الجدية والمعقول، واحترام المواعيد، والموضوعية..
وقد يكون من اللازم أن تقوم الطبقة السياسية، صاحبة القرار، بتثمين ما هو متحقق، والعمل على تدارك الزمن الذي يضيع في قضايا قدم فيها جلالته الأجندة بوضوح كامل، سواء بالنسبة لمغاربة الخارج أو بالنسبة للطاقة والماء، والنقط العالقة في الدولة الاجتماعية (البطالة والدعم والتعويض عن الشغل ) كما ينتظر ألاَّ تبحث الطبقة السياسية ومنها الطبقة المحافظة عن اللعب بالقضايا الحارقة والصعبة، من قبيل المدونة والمجالات المحفوظة للتدبير السيادي … والتوجه نحو المستقبل بنفس جديد.
لا بد لنا من أن ننصت لرأي الشخصيات المهتمة وما يرد في التقارير الدولية ومكاتب الدراسات وأصحاب القرار في القارات المجاورة لنا، والتي تعتبر أن المغرب حقق لنفسه هوية استراتيجية وتوفق في صناعة نموذجه. وهو نموذج مبني على السيادة، وإذا كانت السيادة متأصِّلة في الحمض النووي التاريخي للدولة المغربية فإن كل ملك يجدد ببصمته نموذجها كما يحدث مع محمد السادس، ويتجسد في الكثير من قراراته وفي تصريفها، ديبلوماسيا وأمنيا وغذائيا وطاقيا وصحيا وصناعيا، وما إلى ذلك…
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 29/07/2025